سجون الوزير "بويا" الحسين الوردي

سجون الوزير "بويا" الحسين الوردي

هل هي مبالغة أن يعتبر مهنيون أن ظروف إقامة نزلاء بويا عمر المرحلين إلى مؤسسات صحية  في ما سمي بـ "كرامة" هي أشبه بالسجن وموسومة بالاحتجاز؟ سؤال يطرح نفسه بقوة لأنه عندما أقدم الحسين الوردي وزير الصحة على هذه الخطوة طمأن ذوي المرضى والمهنيين على أن الكرامة لها ما بعدها من تجويد الخدمات والإيواء والعمل المستمر لتفادي أي انتكاسة محتملة.

لكن بعد شهر العسل بدأت تظهر بوادر فشل هذه المبادرة التي لم تشمل سوى نسبة قليلة من النزلاء، على اعتبار أنها همت فقط بضع مئات، في حين أن الأعداد الحقيقية لمرتادي الضريح سنويا تعد بالآلاف، وهم الآن إما رهن الاحتجاز العائلي أو يجوبون شوارع المدن ليضافوا إلى طابور التشرد الذي لا يلقى نفس الاستنفار الذي صاحب إخلاء الضريح، وكأننا بصدد فقط إخفاء العار وليس إزالته. ففي البيضاء مثلا هناك حوالي ألفين متشرد أغلبهم من المختلين عقليا.

أن يصف ممرض بمستشفى الأمراض النفسية "اسعادة" بمراكش نفسه بحارس سجن، فهذا له دلالة معبرة عن أحوال إقامة النزلاء ومعاناة المهنيين الذين يشتغلون في ظروف مزرية بلوجيستيك ووسائل وموارد جد محدودة سواء البشرية أو المادية. يعني هذا أن "الوضع المقلق" هو المسيطر على الملف لأن رهان الوزارة على أن تتكفل العائلات بذويهم بعد استقرار الحالات كان رهانا غير محسوب. فلحد الآن جل العائلات ترفض أن يتم تسريح أبنائهم على اعتبار أنه رغم استقرارهم الظاهري ما يلبثون أن يعودوا لتعنيف محيطهم أياما فقط بعد خروجهم من المستشفى، كما وقع لبعض من قاموا بعملية تسلم مرضاهم، ولذلك يرفضون أن تتم ممارسة أي ضغوطات عليهم من أجل إخراج أبنائهم. بعض العائلات يرغبون فقط في تحويل مرضاهم إلى مؤسسات قريبة من محل سكناهم لكنهم لا يجدون مخاطبا سوى إذا رغبوا في تسلم أبنائهم وتوقيع ورقة لإخلاء ذمة المؤسسة دون ضمان أن يلتحقوا إلى هنا أو هناك. بعض الأسر تطلب فقط حسن المعاملة وتحسين التغذية... هذه باختصار الكرامة المقترحة من طرف وزير أراد أن يحمل وزارة الصحة أكثر من طاقتها في ملف يفترض فيه تدخل عدة مصالح خارجية أخرى على أرض الواقع لا على أوراق اتفاقيات الشراكة فقط.

حوالي 3500 مريض نفسي بسجون المملكة يقضون مدتهم الحبسية في غير مؤسسات مختصة تتابع حالاتهم، أرقام تم تداولها في الندوة المشتركة بين المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج ووزارة الصحة، هذا فضلا على أن الحالة الصحية العامة للعديد من السجناء وصفت بالمتدهورة وأن المؤسسات السجنية أصبحت مكانا لانتشار العديد من الأمراض المعدية كالسل والسيدا. هذه الوضعية دفعت بالأمين العام للمجلس الاستشاري وكذا المندوب العام لإدارة السجون إلى اقتراح إمكانية تكليف وزارة الصحة مباشرة بملف الصحة في السجون. وضمنيا حملوها مسؤولية تدهور صحة السجناء على اعتبار أن وزارة الصحة لا توفر الخدمات الكافية أمام ضعف الطاقة الاستيعابية لمؤسساتها، وخصوصا الأمراض النفسية.فالقانون المنظم للمساعدة الطبية راميد يشمل نزلاء السجون وبالتالي فمسؤولية وزارة الصحة ومستشفيات الدولة ثابتة.

وزير الصحةن كعادته، يحب اللجان كثيرا. قال إن لجنة مكونة من ممثلين عن وزارة الصحة ووزارة العدل والمندوبية العامة للسجون ومؤسسة محمد السادس لإعادة إدماج السجناء والمجلس الوطني لحقوق الإنسان وممثلين عن المجتمع المدني، كلفت بإعداد مقترح برنامج مشترك للنهوض بالصحة داخل الفضاءات السجنية. وهنا ذكرني باللجنة المشتركة لدراسة ملف بويا عمر التي انفض جمعها وبقيت وزارة الصحة وجها لوجه أمام واقع ليس كما تم رسمه في البداية.

وزير الصحة الذي يتجول بحقيبة فارغة من الموارد ويوزع الاتفاقيات والشراكات يمينا وشمالا، لا يعزز من خلالها قوته التفاوضية من أجل تحسين ميزانية وزارته، ولذلك يطوف بموارده المحدودة في جميع الاتجاهات شيء منها للصحة المدرسية والجامعية وشيء منها للشباب والرياضة وشيء منها لبويا عمر وفي المستقبل بعضها للسجون، فما بقي للبرامج الوقائية والاستشفائية؟

ضعف القوة التفاوضية وتعدد الورشات بدون موارد أصاب وزارة بأكملها من الوزير وحتى البواب بمدخل المستشفى بالإعياء دون طائل، وإن فشل وزير الصحة في مضاعفة ميزانية وزارته فوت الفرصة، وعلى طول ولاية حكومية هي على مشارف نهايتها، من أن يكسب القطاع شيئا من الزمن الضائع عوض شغل الرأي العام بالملفات الفارغة كشد الحبل مع الطلبة الأطباء. هذا إذا كانت هناك فعلا نية للإصلاح.