لنسرد محتوى الفصلين 41 و42، ثم نحاول تبيان مدى تمفصلهما بالنسبة للحقلين السياسي والديني، وخاصة تفاعلهما مع الفعل السياسي لـ "بيجيدي" كقائد للحكومة الحالية، وكمكون يزعم الكثير بأنه "يزعج ويفاجئ" الملك!! وسنلاحظ أن العلاقة بين الملك وبنكيران وحزبه تشكل في اللحظة السياسية الراهنة "حلفا مقدسا" بالتمام والكمال، فيما أن الانتخابات لا علاقة للملك بها، وهي آخر هواجسه بالنظر إلى أنه يتموقع خارج اللعبة السياسية والانتخابية كرئيس دولة مدنية مكلف بنص الدستور بالسهر على أمن البلاد المادي، وعلى اعتباره مكلفا بالسهر على الأمن الروحي للمغاربة كأمير للمؤمنين، وهو الأمر الذي يمكنه من بسط ما أسميه شخصيا "أصولية الدولة"، في تكامل وتناغم مع أصولية "بيجيدي" وذراعه الدعوي الحركي.
ينص الفصل 41 وبالتفصيل الممل أن "الملك، أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين، والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية. يرأس الملك، أمير المؤمنين، المجلس العلمي الأعلى، الذي يتولى دراسة القضايا التي يعرضها عليه. ويعتبر المجلس الجهة الوحيدة المؤهلة لإصدار الفتاوى التي تعتمد رسميا في شأن المسائل المحالة إليه، استنادا إلى مبادئ وأحكام الدين الإسلامي الحنيف، ومقاصده السمحة. تحدد اختصاصات المجلس وتأليفه وكيفيات تسييره بظهير. يمارس الملك الصلاحيات الدينية المتعلقة بإمارة المؤمنين، بمقتضى هذا الفصل، بواسطة ظهائر".
وينص الفصل 42 على أن "الملك رئيس الدولة، وممثلها الأسمى، وضامن دوام الدولة واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها، يسهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، وعلى احترام التعهدات الدولية للمملكة. الملك هو ضامن استقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة. يمارس الملك هذه المهام بمقتضى ظهائر، من خلال السلطات المخولة له صراحة بنص الدستور. توقع الظهائر بالعطف من قبل رئيس الحكومة..."
المعروف في الأدبيات التاريخية وأدبيات علم السياسة، أن "الملك المغربي الشريفي" لا يتوفر على "دعوة دينية" ولا على "مشروع ديني" كما كان معمولا به من قبل لدى "السلطان القبلي" كما كان الشأن بالنسبة للمرابطين أو الموحدين. لكن في المقابل، ينتهج "الملك الشريفي" دائما "سياسة دينية" تجاه سوق الأسهم الدينية الموجودة داخل الجسم الاجتماعي الذي يحكمه، وذلك بغرض التحكم السياسي في الاستراتيجيات الدينية للفرقاء الدينيين من أرثودوكسيين وزوايا وطرق وغيرهم. وهذا عينه ما كرسه دستور فاتح يوليوز 2011 في فصله 41 سابق الذكر، ومن لم يفهم بعد هذا المعطى فلا يمكن له فهم التجليات السياسية الحالية ولا منطق التحالفات الموضوعية التي نراها ولا نفهمها لتشبثنا بمفاهيم الماضي السحيق من "مخزن" وحكومة الظل" وإواليات الصحافة الفرنسية وما شابهها ممن لا يكلفون نفسهم عناء التفكير مادام الأمر يتعلق بالمغرب !!
وعليه، فالعلاقة الحالية بين رئيس الدولة (الفصل 42)، وأمير المؤمنين (الفصل 41) بابن كيران و"بيجيدي" تشبه إلى حد بعيد علاقة الرئيس التركي بوزيره الأول، مع الفارق أن أصولية الاثنين أصولية واحدة تتكسر أمواجها على صخرة اللائيكية المنصوص عليها دستوريا في تركيا منذ عهد مصطفى أتاتورك والتي من شأنها حماية حقوق وحريات الأفراد والجماعات من أي تعسف باسم الشريعة والدين. وذلك على اعتبار أن السيد بنكيران لم يستقل من الحزب فور تعيينه رئيسا للحكومة بعد فوز حزبه الإسلامي في تشريعيات 2011 كما يحدث عادة في الديمقراطيات التي تحترم نفسها، إذ سهل ذلك ضمنيا على النظام السياسي إرساء أصوليتين اثنتين: أصولية الملك وأصولية رئيس الحكومة وحزبه.
هما أصوليتان إذن.. أصولية "بيجيدي" مستندة إلى ذراعه الدعوي بتنظيماته وأطره، يحترف هو الآخر تقنية الإفتاء عبر ما نسميه "فقه المقاصد"، وهو نفسه المرجعية الأساسية التي أحال عليها الفصل 41 من دستور المملكة. ناهيك على أن هذا الذراع الدعوي المنظم، كثيرا ما أشارت إليه الأصابع من كونه هو من يطعم المجلس الأعلى والمجالس الجهوية للعلماء التي يسيرها الملك/ أمير المؤمنين نفسه بالأطر اللازمة لاشتغالها، مما يؤكد بما لا يدع مكانا للشك بأن الأصوليتين تعملان وتشتغلان يدا في يد، بنفس المرجعيات الفكرية والدينية. مثال بسيط، ألم يفت المجلس الأعلى الذي يرأسه الملك بإقامة حد القتل في المرتد؟؟؟!! وهل سمعنا من فقهاء الذراع الدعوي لابن كيران ردا على هذه الفتوى، مع أن أي مبتدئ في الفقه يعلم أن الأمور ليست بتلك السهولة، وأن خيارات الحكم في مادة الردة متعددة بعدد المجتهدين المسلمين ابتداء بالبخاري وانتهاء برسالة أبي زيد القيرواني!! كيف يمكننا تفسير تلكؤ الدولة وتلكؤ السلطات المكلفة بإنفاذ القانون في قضية "فتيات التنورة بإنزكان"، وقضية "الشاب المثلي الفاسي" وقضايا أخرى أزكمت الأنوف فيما يتعلق بالحريات الفردية الأساسية؟؟ أليس ذلك دليل على تحالف مقدس بين الملكية وبين بنكيران وبيجيديه؟؟!! ثم ماذا بقي للمواطنين والمواطنات والجماعات لحماية حرياتهم أمام هذه البنية المادية والإديولوجية التي تتدخل في جميع جزئيات الحياة الفردية للأشخاص، وأي ملاذ بقي أمامهم؟؟ هل نعول على المجالس الوطنية والجمعيات الناشطة في مجال حقوق الإنسان؟! ربما.. مع أنني لم أجد أي ارتباط قانوني دستوري بين الدولة بجميع مكوناتها وبين عمل هذه المجالس الوطنية والجمعيات..
إلى جانب هذه الشراكة الدستورية بين الملكية و"بيجيدي"، هناك الأهم.. إنه التحالف البنيوي والشراكة السياسية البنيوية بين الاثنين في الفعل السياسي.. لنعد بسرعة قراءة أحداث 20 فبراير وما تلاها.. من هو الحزب الذي أخذ المبادرة منذ أول خروج الفبرايريين للشارع وحتى قبل خروجهم؟؟!! البام؟؟ أبدا.. فالجميع يعرف ذلك مادام أن صور زعمائهم رفعت منذ اليوم الأول للخروج كتبت عليها عبارة "إرحل"، والجميع يعلم كذلك أن "بيجيدي" وجمعياته كانت لها بعض اليد في رفع الصور تلك!! الأحزاب الأخرى؟؟...نعم.. بل وشاركت شبيباتها في هذه المظاهرات... بعضها، كجماعة العدل والإحسان، حاولت تسخير 20 فبراير لصالح قومتها، غير أن تظافر الجهود بين بنيات الدولة المكلفة بتطبيق القانون، والجمعيات المنضوية تحت يافطة "بيجيدي"، وجحافل المد الطرقي البوتشيشي، حال دون بلوغ من تحلقوا حول مطالب 20 فبراير أهدافهم، وكان الرابح الوحيد في آخر المطاف هو الإسلام السياسي يتزعمه "بيجيدي" وابن كيران... ويتزعمه كذلك ملك المغرب كأمير للمؤمنين في الصيغة التي كانت في الفصل 19 السابق..
وعليه، فلا يمكن أن ينكر عاقل أن بنكيران وحزبه هم القادرون على تأطير الشارع في الوقت الراهن، وأنهم القادرون مرحليا على تجنيب النظام ويلات ما سمي جزافا بالربيع المغربي. فكيف بالإمكان عدم القول بحلف مقدس مازال متجليا في الحياة السياسية التي نعيشها بعد انتخابات 4 شتنبر؟؟ وكيف بالإمكان تصديق من يقول أن نجاح "البيجيدي وبنكيران" في هذه الانتخابات "فاجأت وأفزعت" الملكية؟؟!! طبعا... ما أقوله أعتبره صحيحا اليوم... ويمكن أن يرفع عنه الصواب غدا أو بعد غد، إذا ما تغيرت موازين القوى السياسية في البلاد، وسطع من جديد نجم هذا الحزب أو ذاك غير البيجيدي... فالمؤسسة الملكية، في صيغتها المدنية وفي صيغتها الدينية، سوف تتحالف مع الأصلح لأفقها السياسي الذي هو الدوام في الحكم وليس غيره... وهو بطبيعة الحال ما تسعى إليه جميع ملكيات العالم.