تشكل الانتخابات المقبلة اختبارا حقيقيا ومحطة حاسمة، لتنزيل أحكام الدستور الجديد وبناء أسس صرح ديمقراطي قوي ومتماسك، باعتبار الديمقراطية الشكل الطبيعي للتنظيم السياسي والمظهر السياسي للحداثة وحق الأفراد والجماعات، في تقرير مصيرهم و صنع حياتهم وتاريخيهم. وهي تندرج هذه السنة، كما هو معلوم ، في سياق إصلاحات دستورية ومؤسساتية هامة وعميقة، ترمي ترسيخ دولة القانون وحقوق الإنسان وإرساء مؤسسات تمثيلية جادة و ذات مصداقية، من خلال توفير مناخ سياسي سليم وإطار قانوني فعال ومتوازن ومتوافق عليه، يمكن من تنظيم الحياة الانتخابية وتأطيرها وتخليقها وتحصينها، من كل ما من شأنه المس بنزاهتها وسلامتها، كذلك الالتزام الجماعي من طرف الحكومة والشعب والأحزاب والجمعيات ووسائل الإعلام٠٠٠ (بالقانون وروح المواطنة والمسؤولية والتنافس الشريف وجعل مصلحة البلاد فوق كل اعتبار).
لكن أين نحن اليوم من كل هذا؟ وهل من إشارات قوية أو إرهاصات أولية، تدل على أن يوم الاقتراع سيشكل بالنسبة للمغاربة هذه السنة عرسا انتخابيا وعيدا سياسيا، يقطع مع الماضي وممارساته ويحملنا إلى مستقبل أفضل، مستقبل لا تستفحل فيه أشكال جديدة، للفعل الديمقراطي والتعبير عن المطالب والآمال من خارج المؤسسات، (…لا يتحمل مسؤولية تنظيمها وتأطيرها وتعبئتها أي تنظيم سياسي؟).
فمع اقتراب موعد الاستحقاقات القادمة، يتوقف قطار السياسة وتنطلق مكينة الانتخابات، يتراجع الخطاب السياسي النبيل والمتزن، وتحل محله تصرفات مشينة وسلوكات مقيتة، هرج ومرج وفوضى عارمة، نفاق وتزويق وتنميق وتضليل ووعود كاذبة. يخفت صوت رجالات السياسة الشرفاء، ليعلو فقط صراخ وضجيج كائنات انتخابية غوغاء. كائنات لم تستوعب على ما يبدو دقة اللحظة وخطورة المرحلة، حصد المقاعد بالنسبة لها غاية تبرر كل وسيلة. كائنات لا تخضع لقواعد ولا تلتزم باتفاق ولا تنخرط في مشروع. كائنات نجدها، هي نفسها، دائما في الموعد، عند الانطلاقة، برسم كل استحقاق، من دون خجل أو أدنى استحياء. مناورة ومضللة، تخفي مالا تعلن، تردد كلاما وتفعل ضده وتنهى عن سلوك وتأتي مثله، بل وأفظع منه. تطلع علينا لتعلن نيتها ورغبتا عدم الترشح والانتداب (وهي بالتأكيد تسعى من خلال ذلك إلى التألق والنجومية وإثبات الذات واستعراض العضلات وتبييض المسار وترميم البكارة السياسية) لنفاجئ بها في النهاية وقد تربعت من جديد على رأس اللوائح، مستمسكة ومستميتة، تخطب في الناس كذبا وبهتانا أن لو كان الأمر بيدها لما ترشحت، ولكنها إرادة القواعد وحكم الأغلبية والإستجابة لنداء الواجب والامتثال للأنظمة والمساطر.
وتعطلت لغة الشرف والمبادئ والأخلاقيات وتوارت إلى الوراء المرجعيات والإيديولوجيات، لتبرز في المقابل لغة العائلة والقبيلة والزمالة والنفوذ المالي والمكانة الاعتبارية(وهي بالمناسبة مظاهر سلبية متفشية بقوة، في الممارسة السياسية المغربية، سواء على صعيد التمثيلية المركزية، من خلال الانتخابات التشريعية أو على صعيد التمثيلية المحلية، من خلال مجالس الجهات والجماعات والعمالات والأقاليم)، وانتصرت خطابات الديماغوجيا والأحاديث المزدوجة. ديماغوجيا وازدواجية تبلغ أوجها، كلما تعلق الأمر بقضية المرأة ، يتحدثون عن كفاءتها وجدارتها وأحقية مطالبها ومشروعية نضالاتها، في حين تتم معاكستها واستصغار إنجازاتها واحتقار مجهوداتها، لكي لا يفسح لها المجال لتتقلد أي مسؤولية تقريرية أو مهمة تنفيذية أو تحظى بعضوية في مؤسسات استشارية أو مجالس دستورية.
وحين تفوز هذه الكائنات الانتخابية وتزف إلى مقعدها وتستقر مكانها، وتتوزع بين أغلبية هشة، غير طبيعية ولا منسجمة، من جهة ومعارضة صورية وفولكلورية، من جهة أخرى، تتحول تلقائيا وسريعا إلى دمى سياسية متحركة، وتستمر في القيام بنفس الأدوار وفي خلق نفس الأجواء، أجواء من الفوضى والغوغائية والتفاهة والعبثية والصبيانية والبطولات الكارطونية؛ سب وشتم وقذف وتهامز وتنابز وتلامز، اتهامات واتهامات مضادة؛ أحكام جاهزة ومواقف عدمية، تشكيك وتخوين وسوء ظن ودغدغة مشاعر، كشف أسرار وتسريب أخبار، تهديد بالمقاطعة أو بالإنسحاب والنزول إلى الشارع أو بالإعتصام وحمل الصور وترديد الشعارات، كما لو أننا في مخيم للأطفال، تلويح بالإستقالة ثم التراجع عنها، دون انتقاء سبب أو تحقيق مكسب، بل وحتى من دون إلحاح من أحد.
حرب كلمات إذن وسيوف خشبية.