السفير عبد القادر زاوي يكتب عن الشرق الأوسط : الاختيار بين الفوضى والانفجار

السفير عبد القادر زاوي يكتب عن الشرق الأوسط : الاختيار بين الفوضى والانفجار

رغم كل الجهود المبذولة لتطويق بؤر الصراع وإيجاد تسويات سياسية مناسبة، تتجه منطقة الشرق الأوسط وفي قلبها العالم العربي إلى المزيد من التشرذم، والتشظي، وانتشار الصراعات والنزاعات الداخلية والثنائية والإقليمية نتيجة تنامي التطرف، والتطرف المضاد وسيادة عدم الثقة بين المكونات المجتمعية داخل الدولة القطرية الواحدة حيث يرغب كل مكون في إخضاع المكونات الأخرى والسيطرة عليها، وبين الأنظمة الحاكمة على الصعيد الإقليمي حيث يريد كل نظام توسيع دائرة نفوذه وتعظيم مصالحه على حساب غيره من الأنظمة والدول.

وغير خاف أن أجواء كهذه تدفع في اتجاه المزيد من الاستقطاب على مستوى الانتماءات الدونية للشعوب العابرة للحدود الإدارية المعترف بها دوليا، وذلك بشكل يجعلها مستلبة منساقة كالقطيع وراء غرائز طائفية ومذهبية وعرقية وقيادات عقيمة أو متواطئة تشل قدرتها على بلورة رؤية استراتيجية مستقبلية يمكنها أن تشيع مناخ تسويات مقبولة للأزمات الحالية في المنطقة، ولتلك التي يمكن أن تنفجر في أي لحظة.

ومما يزيد الطين بلة هو تزامن هذا المناخ المتوتر مع غياب إرادة دولية ناجعة للمساعدة في إيجاد الحلول، وخاصة من طرف الولايات المتحدة المريكية وروسيا الاتحادية، اللتين رغم التناقضات في مواقفهما من العديد من الساحات الملتهبة أو المرشحة للالتهاب متفقتان على ترك منطقة الشرق الأوسط برمتها تغرق في صراعات شتى بعيدا عن أراضيهما دون الاهتمام كثيرا تحت أي يافطة أو شعارات تجري تلك الصراعات. فالمطلوب تعميم الفوضى لتغدو هي القاعدة والنظام في المنطقة، ويصبح الاستقرار إن وجد هو الاستثناء.

لقد أثبتت العديد من التطورات والمستجدات التي شهدتها أحداث المنطقة أن روسيا وأمريكا استطاعتا دائما إدارة التناقضات في مواقفهما بحرفية كبيرة، موظفين ما يجري من صراعات لفائدتهما ولما يخدم مصالح هذا الطرف أو ذاك دون التأثير سلبا على مصالح الطرف الآخر، أوبشكل قد يستفزه، عاملين على تأجيج ذكي للديناميات الإقليمية بدلا من تهدئتها، والسعي تدريجيا إلى تغييرها. هذا ما يمكن أن يستشف مما يلي :

*التفاهم على كيفية التخلص من الأسلحة الكيماوية للنظام السوري بعد أن استخدم بعضها، وهددته واشنطن برد عنيف. فلم تتحرك روسيا لنصرة النظام أو لتبرئته إلا بعد أن وافق صاغرا على تجريده من تلك الأسلحة، متنازلا عن سلاح الردع الوحيد ضد إسرائيل.

*تمرير قرار في مجلس الأمن يطلب تحديد الجهة أو الجهات المسؤولة عن مواصلة استخدام الأسلحة الكيماوية، وذلك بأسلوب رأى البعض فيه ضغطا جليا على النظام أيضا كي يتراجع عن مواقفه المتصلبة، ويتجه عاجلا أم آجلا نحو التفاوض مع معارضيه.

*تبني خطة المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا الداعية إلى إطلاق عملية سياسية تعبر عن تطلعات الشعب السوري من خلال مرحلة انتقالية عبر هيئة قيادية بسلطات كاملة تشكل على أساس تفاهم متبادل، تعرف الدولتان معا أنه بعيد المنال في الظروف الراهنة وفي المدى المنظور أيضا.

إن اتفاق الدولتين الكبيرتين على إدارة التناقض في مواقفهما بما يمنع أي صدام مباشر بينهما، يشمل أيضا التحرك المتوازي بأساليب ذكية لزيادة بؤر التوتر في المنطقة وتوسيع دائرتها بما يضاعف منسوب القلق لدى شعوبها وأنظمتها، فتزداد التصاقا بهذه الدولة الكبرى أو تلك في عملية لتوزيع النفوذ بما يضمن هيمنتهما على كامل المنطقة، والتحكم في مصيرها.

واستنادا على هذه المعطيات واستغلالا لانغماسهم مبكرا في ساحات الحراك العربي تم تدريجيا توريط كل من إيران وتركيا ودول الخليج في أتون صراعات المنطقة بما فيها الصراعات الدامية دون خط رجعة وبشكل سيستمر لا محالة طويلا. وهذا ما رفع منسوب القلق لدى هذه الدول والأنظمة الموجودة على تماس مباشر مع الساحات الملتهبة، التيانقلب فيها القلق إلى نوع من اليأس بعد أن سقطت فريسة حروب أهلية ضروس تعمل على تمزيق خرائطها بين أنظمة ما تزال قائمة، ولكنها مشلولة وعاجزة عن حفظ كيان الدولة كما ورثته، وبين معارضين متنوعين يعملون على اقتطاع أراض هنا وهناك في شكل إمارات للطوائف.

1/ إيران  بين احترام الاتفاق وخلط الأوراق :

إن التركيز على الطابع التقني والفني للاتفاق النووي في عملية تسويقه داخليا و خارجيا مع إعادة التأكيد على ثوابت السياسة الخارجية الدولية والإقليمية للجمهورية الإسلامية الإيرانية لم يفلح في وقف الحديث المسترسل عن انعكاسات هذا الاتفاق التلقائية على الصعيد السياسي في منطقة ملتهبة، خصوصا وأنه ساعد نظام الملالي على استيعاب شرائح واسعة من المجتمع الإيراني كانت ناقمة عليهم من جراء العقوبات، ونقل الدولة الفارسية من قضية تناقش في المحافل الدولية كنظام مارق إلى أمة ذات حضارة راسخة وقوة اقتصادية واعدة، ولاعبا إقليميا أساسيا يمتلك أوراقا مهمة، وجد مؤثرة تساعده في تنفيذ استراتيجياته الداخلية والإقليمية.

إن ما يصدر عن إيران من تصريحات، وما تقوم به أجهزتها المختلفة من تحركات ينم عن وجود صراع ما يدور في أروقة صنع القرار الإيراني بين منطق الدولة ومنطق الثورة بشكل يتجاوز عملية توزيع الأدوار. ولكن تحليل كل السلوك الإيراني يشي بإرهاصات جنينية في اتجاه تغليب الواقعية السياسية على الرومانسية الثورية ؛ الأمر الذي يتطلب تغييرا في طريقة التعامل مع قضايا المنطقة ولو بشكل متدرج.

في هذا السياق كان لافتا للانتباه أن إيران التي ظلت تؤكد وتعمل في الميدان على أساس معادلة أن تعود سوريا كما كانت (بسلطة مطلقة للرئيس الأسد) أو لن تكون لأحد، رافضة أي حل سياسي مقترح من هنا وهناك هي نفسها التي تعلن فجأة عن مبادرة لحل الأزمة السورية لا تتحدث عن مصير الرئيس الأسد، ولكنها لا تلح على بقائه ؛ بل إنها تنص مقابل ذلك على إنشاء حكومة انتقالية، الأمر الذي فسره البعض بأن إيران بدأت تستشعر الخطر على مصالحها الاستراتيجية بعد أن اعترف الرئيس الأسد نفسه بعجزه على خوض كل المعارك، واستعادة كل الأراضي لنقص العنصر البشري المساند له.

إن هذا التوجه الإيراني أتى متزامنا مع ما يبدو من إنهاك لحليف طهران حزب الله في المستنقع السوري دون تحقيق نتائج حاسمة حتى في المناطق التي نزل فيها بكل ثقله كالقلمون ومنطقة الزبداني، التي نقلت مجلة الإيكونوميست عن أحد مقاتلي الحزب بأن السيطرة عليها تقتضي خوض القتال من مبنى إلى آخر. وقد ترافق أيضا مع موقف أسال الكثير من الحبر قام به وزير خارجية إيران خلال زيارته الأخيرة للبنان حيث التقى بالأمين العام لحزب الله، وامتنع عن زيارة ضريح القائد العسكري عماد مغنية خلافا لما جرت عليه عادة المسؤولين الإيرانيين حين يلتقون بقادة حزب الله في لبنان.

إن هذا الامتناع يؤكد حرص السلطات الإيرانية على نجاح الاتفاق النووي، وعدم إعطاء أي ذريعة لمناهضيه في الولايات المتحدة الأمريكية من أعضاء الكونغرس لتعطيل إقراره، سيما وأن المرحوم عماد مغنية كانت واشنطن تصنفه قبل وفاته عنصرا إرهابيا. وغير خاف أن هذا الحرص مرده حاجة إيران الماسة إلى الإفراج سريعا عن الأموال الإيرانية المجمدة في الأبناك الغربية بغية إنعاش الاقتصاد، الذي قدر الخبراء حاجته إلى حوالي 500 مليار كي يتم تأهيله للاندماج سريعا في عجلة الاقتصاد العالمي.

ورغم هذ الخطوات، فمن السابق لأوانه الحديث عن قناعة إيرانية راسخة ومتفق عليها بين كافة الأجهزة والمؤسسات بالعمل على تغليب نهج المنطق والحوار كأساس تنبثق منه قوة إيران الحقيقية، وليس نهج القوة والسلاح لكي تبدو طهران قوة مشيدة، وليست قوة مشوشة ؛ الأمر الذي فتح المجال أمام تعدد الاحتمالات في هذا الشأن بين :

*من يرى أن إيران بصدد الإعداد لبدء تنفيذ شراكة إيرانية أمريكية غير معلنة أوجدتها أجواء الاتفاق النووي، وعليها أن تتكيف مع متطلبات الاتفاق داخليا وإقليميا، سيما وأن الدلائل تتواتر عن محدودية استخدام القوة في حل الأزمات المستعصية بالمنطقة، وأن الدبلوماسية وحدها يمكن أن تضفي المزيد من الشرعية على تصرفات طهران وحضورها الإقليمي.

*ومن يعتقد أن إيران تعمل على تحاشي أفخاخ محكمة تنصب لتوريطها أكثر في مستنقعات الشرق الأوسط ، وهو ما اتضح من خلال تراجعها عن دعم الحوثيين في اليمن، وتركهم فرادى يواجهون مصيرهم، وحيادها إزاء انتفاضة الفساد الشيعية ضد سلطات بغداد الشيعية رغم ما تنطوي عليه من تقليص لنفوذ طهران في العراق وما تضمنته من اتهامات كبيرة لشخصيات سياسية حليفة لها مثل رئيس الوزراء السابق نوري المالكي.   

وأيا يكن الاحتمال الأقرب لحقيقة السلوك الإيراني، فإن الأمر الأكثر وضوحا من خلال التطورات الجارية هو وجود سعي إلى إنهاك إيران هي الأخرى بتوريطها أكثر في لعبة الاستقطاب الحاد في المنطقة لتبيان حدود إمكانياتها ودفعها تبعا لذلك إلى التخلي عن أوهامها المرتكزة على عقدة تسميها التفوق الحضاري الفارسي على الجيران العرب والعجم (الأتراك) على حد سواء، والممزوجة بنوع من التزمت العقائدي والمذهبي المغلف بأطروحة دعم المستضعفين.

ولا شك أن الرئاسة الإيرانية العليا تبدو متيقظة لتفادي السقوط في هذه الأفخاخ التي تنصب لها كما يدل حديث الرئيس حسن روحاني عن أن إيران تستمد قوتها ونفوذها من قمر إسلامي عام وليس من الهلال الشيعي الذي وضعها وجها لوجه ضد جيرانها. ولكن هذا الحديث لا يعفي من التساؤل عما إذا كانت ولاية الفقيه ومعها قوات الحرس الثوري مستعدة للقبول بهذا التحول أم أنها ستعمد إلى خلط الأوراق بوضع عراقيل تعيق تنفيذ الاتفاق ؟

2/ تركيا : تحجيم الأكراد ثم باقي الأبعاد :

إذا كانت ثورات الربيع العربي واحتجاجاته قد حرمت تركيا قطف ثمار سياسة العمق الاستراتيجي وتصفير المشاكل مع الجيران التي نهجتها حكومات حزب العدالة والتنمية منذ وصولها إلى السلطة سنة 2002، فإن استمرار نيران هذه الثورات وخاصة في الجوار التركي المباشر سوريا والعراق قد فرض على أنقرة المزيد من الانغماس في خضم أحداث الشرق الأوسط المضطربة والمتغيرة سريعا، مضطرا إياها إلى التورط عميقا في أتون المعارك المصيرية الدائرة هناك، خاصة وأن ارتداداتها الأمنية والعسكرية قد بدأت تطال التراب التركي نفسه، وتهدد الوحدة الهشة لمجتمعه.

إن الانغماس التركي في ساحات الحراك العربي أتى متدرجا وبصيغ مختلفة حاولت أن تزاوج فيها تركيا بين المصالح والمبادئ، وأن تظهر بأنها منحازة إلى حد كبير إلى إرادة الشعوب، خاصة بعد أن تأكدت أن الأنظمة المعنية ليست في وارد التجاوب فعليا وبعمق مع هذه الإرادة. وقد اتضح ذلك بشكل كبير في الحالة السورية حيث بادرت منذ اليوم الأول لاضطرار الثورة إلى حمل السلاح دفاعا عن نفسها وعن شعبها إلى دعمها سياسيا وإنسانيا وعسكريا، وتأمين ممرات آمنة لتزويدها بالسلاح والمتطوعين من كل حدب وصوب.

ومع ذلك، فإن هذا الدعم لم يكن لا مبدئيا ولا شاملا، إذ استثنت أنقرة منه القوى الكردية السورية التي ظلت تتوجس من إمكانية إعلانها حكما ذاتيا لمناطقها في التراب السوري على غرار ما حصل في كردستان العراق ؛ الأمر الذي قد تجد معه تركيا نفسها محاصرة في الجنوب والشرق بكيانات كردية ستشكل حتما نموذجا وسندا أيضا لأكرادها الذين لن يقبلوا بأقل مما حصل عليه إخوانهم في العراق وسوريا، وهو أمر غير مستساغ لحد الآن لدى كافة القوى السياسية التركية قومية، كانت أم علمانية أو بنكهة إسلامية.

ولا شك أن إقدام تركيا على غض الطرف عن صعود الحركات الدينية المتطرفة في المنطقة، وخاصة داعش وعن اجتياح الأخيرة  لأراضي شاسعة من العراق وسوريا لم يكن مرده السعي إلى تحجيم دور إيران ووكلائها في البلدين فقط، وإنما توظيف هذا الاجتياح لقطع تواصل أراضي الأكراد داخل سوريا وعبر الحدود مع أكراد تركيا، وبصفة خاصة مع قواعد حزب العمال الكردستاني المصنف حركة إرهابية. هذا ما يفسر تلكؤ أنقرة في البداية إزاء السماح لبشمركة أكراد العراق بالمرور عبر أراضيها في اتجاه مساندة إخوانهم في مدينة كوباني (عين العرب) ؛ لأن ما يهم تركيا هو منع قيام كيان كردي مترابط الأطراف عبر الحدود في المنطقة كلها.

لقد كان ذلك السماح، الذي لقي استحسانا أمريكيا كبيرا توطئة لمفاوضات أكثر عمقا بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية بغية انخراط أنقرة جديا في محاربة تنظيم داعش والترخيص لواشنطن باستخدام القواعد الجوية التركية لمهاجمة التنظيم المتطرف. ومع ذلك فإن موافقة تركيا كانت مشروطة بالتسليم لها دوليا بأن تضرب بالتوازي كلا من قواعد حزب العمال الكردستاني داخل تركيا وخارجها، وحلفائه في سوريا، وكذا داعش وقواعدها تحقيقا ل:

 *منع أي تقسيم بنزعة عرقية أو مذهبية للأراضي السورية بدأت تتحسب له ببدء تدريب ميليشيات تركمانية وإقامة قواعد لها شمال حلب.

 *تمهيد الطريق لإقامة ملاذات آمنة شمال البلاد يمكن أن تعيد إليها قسما كبيرا من اللاجئين السوريين لديها، الذين باتوا يشكلون عبئا أمنيا وماليا كبيرا.

*تنظيف نقطة انطلاق للثوار السوريين المعتدلين الذين يجري تدريبهم أمريكيا لمحاربة داعش أولا، والنظام فيما بعد، وتوفير حماية جوية لتحركاتهم.

وفي سياق ضبط إيقاع المنطقة على التوازن الأمريكي الروسي المشترك لم يكن مستغربا قبول الطلب التركي ما دام يساعد على الزج أكثر بأنقرة في صراعات المنطقة بشكل يلهي قواتها المسلحة، ويبدد رصيد القوة الناعمة الذي أسسته في الشرق الأوسط باعتبارها صاحبة أنجع برنامج اقتصادي واستثماري خولها دخول مجموعة الدول العشرين المتطورة اقتصاديا في العالم، وأول دولة أنهت بسلاسة ودون دم وصاية المؤسسة العسكرية على الحياة السياسية، وتمكنت من غزو القلوب والعقول بحركتها الثقافية والسياحية الحية والجذابة.

ويوما بعد يوم يتواصل توريط تركيا في العمق السوري والعمق العراقي بضرب معاقل داعش وضرب قواعد حزب العمال الكردستاني وحلفائه، مقابل محاباة واضحة لبعض فصائل المعارضة السورية بشكل يثير حساسيات غير مرغوب فيها مع إيران. وإذا لاحظنا أن ذلك يتم بالتزامن مع استمرار القطيعة مع النظام المصري الحالي باعتباره من وجهة نظر تركيا نظاما انقلابيا، ومع بقاء التوجس الحذر في العلاقات مع دول الخليج باستثناء قطر، فإن الأمر سينتهي بأن تضع تركيا شعار مؤسس الجمهورية الحديثة "سلام في الداخل وسلام في الخارج" في مهب الريح.

إن الخشية من وضع كهذا تبدو جلية في تصرفات قيادة حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا المنزعجة كثيرا من انعكاسات الوضع الإقليمي المضطرب على انخفاض شعبيتها في الداخل، كما أظهرت الانتخابات التشريعية الأخيرة، ما اضطرها إلى الدعوة لانتخابات أخرى جديدة قد لا تعيد الحزب إلى سابق ريادته.

ولذلك يعتقد الكثير من المراقبين أن تركيا رغم توافقها مع واشنطن، فإنها لن تجاريها مطلقا في سعيها لما تدعيه عن اجتثاث الحركات الإرهابية المتطرفة في سوريا والعراق، وعلى رأسها داعش، وإنما ستعمل فقط على احتواء هذه الحركات وإعادتها إلى بيت الطاعة التركي حتى لا تضيع أنقرة أهم ورقة لها في إثبات الحضور الفاعل في المعادلات الإقليمية، الأمر الذي يعني أنها ستغوص أكثر في وحل مشاكل المنطقة.

3/ الخليج : قلق وأرق :

تعتبر دول الخليج أكثر الدول قلقا وانفعالا مما يجري في الساحة العربية وعلى حدودها المباشرة وأحيانا داخل بعضها، كما هو حال الوضع في البحرين الجالسة على بركان طائفي يقذف حممه قوية بين الفينة والأخرى بطريقة لا تبعث على الاطمئنان إطلاقا وتستدعي يقظة أمنية مستمرة. ومرد القلق هو عدد من العوامل الضاغطة لعل أبرزها :

*الاضطرار إلى الانغماس مباشرة وبثقل عسكري واضح، وقيادة تحالف عربي واسع تحت عباءة جامعة الدول العربية في الصراع اليمني نظرا لما شكله الاجتياح الحوثي بدعم إيراني للسلطة في اليمن وإلغاء الشرعية من تهديد مباشر لدول الخليج ومصالحها المصيرية، إذ لم يكتف بنسف المبادرة الخليجية لحل إشكالية السلطة في صنعاء، وإنما منح الفرصة لإطلالة إيرانية استراتيجية على خليج عدن وعلى باب المندب بشكل يمثل طوقا شيعيا إضافيا من الأسفل لدول الخليج.

*الارتدادات التي تصيب بعض الدول الخليجية في شكل تفجيرات إرهابية بنكهة مذهبية كما حدث في المملكة العربية السعودية والكويت بشكل ضاعف الأعباء الأمنية على هذه الدول المنهكة أصلا من جراء أزيد من أربع سنوات من التعاطي عسكريا وماليا واستخباراتيا مع ثورات الربيع العربي واحتجاجاته تارة لوأد التحركات في بعض الساحات، وطورا لتسريع وتيرتها في أخرى حسب ما تقتضيه المصلحة الخليجية.

في سياق هذا الوضع المتأجج وغير المعهود المتزامن مع انهيار متسارع لأسعار النفط باعتباره المصدر الأساسي للدخل في دول الخليج، وتأثيره الواضح على ميزانيات هذه الدول جاء توقيع الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة دول 5+1  ليفاقم حجم القلق والتوتر لدى دول مجلس التعاون رغم عدم وحدة موقفها من الاتفاق، لأن سلطنة عمان لم تعارضه في أي لحظة، بل ساهمت في تهيئة مناخ التوصل إليه.

إن يأس دول الخليج من إمكانية إقناع الولايات المتحدة الأمريكية بالعدول عن الاتفاق النووي اضطرها إلى الترحيب به على مضض، كما يتضح من تصريح وزير خارجية قطر في أعقاب لقاء الدوحة يوم 3/8/2015 بين وزراء خارجية دول مجلس التعاون ونظيرهم الأمريكي، الذي أكد أن الاتفاق هو أفضل خيار متوافر ؛ وإلى السعي مقابل ذلك إلى الحصول على أكبر قدر من الضمانات الممكنة بشأن انعكاساته المحتملة على أمنها ومصالحها.

وتبرهن تحركات العواصم الخليجية الميدانية والدبلوماسية أن منسوب القلق يواصل ارتفاعه لديها. فالتطمينات الأمريكية الرئاسية في اجتماع كامب ديفيد والوزارية في الدوحة لا تبدو لها كافية، بل رأتها بعض الأقلام القريبة من دوائر القرار غامضة، إذ لا تتجاوز الوعد بتسريع صفقات أسلحة لأنظمة دفاعية متطورة كالحديث عن صفقة صواريخ باتريوت للملكة العربية السعودية، وسعي غير مباشر لدى طهران للعمل على بناء إجراءات ثقة أكثر مصداقية مع دول الخليج، ما دفع إلى الاعتقاد بأن واشنطن تستثمر في القلق الخليجي لتأمين مصالحها وترويج سلاحها أكثر مما تعمل على تبديده.

ومن متابعة ما يصدر عن واشنطن من تصريحات وتقييم للأوضاع يمكن تفهم قلق دول الخليج وسعيها الدؤوب للتحوط للمستقبل ولو بطرق أبواب موسكو. فالرئيس باراك أوباما، الذي أكد أن بلاده ستراقب إيران على مدار الساعة هو نفسه الذي يقول بأن الاتفاق مع إيران لا يحل كل المشاكل القائمة معها، معترفا بأنها ما زالت تدعم حركات تصفها إدارته بالإرهابية، وتعاقب كل من يتعامل معها، وأن من الممكن أن تمول بجزء من الأموال التي سيفرج عنها حركات إرهابية هنا وهناك.

وفي المعلومات المستقاة من الخليج، فإن عواصم المنطقة التي أكدت عبر وزراء خارجيتها في لقاء الدوحة مع نظيرهم الأمريكي عن شراكة استراتيجية متينة مع واشنطن في محاربة الإرهاب، وفي المراقبة والتصدي للتمدد الإيراني، والحكم على سياسات طهران من خلال الأفعال وليس الأقوال هي نفسها التي تردد مجالس حكامها بأن ما تتلقاه من ضمانات ووعود من واشنطن تبدو أحيانا متناقضة وغير مطمئنة، بل ويحمل بعضها تهديدات مبطنة.

 وضمن خانة التهديدات المبطنة هذه يضع البعض حديث الرئيس الأمريكي عن أن دول الخليج أكثر إنفاقا على السلاح من إيران، وأن عليها أن تخشى مما يعتمل داخل مجتمعاتها لا من جيرانها، رغم أنه يعلم جيدا حساسية هذا الأمر لدى قادة المنطقة، خصوصا وأن مجتمعا خليجيا هو المجتمع البحريني يعيش حالة غليان تبدو بعيدة عن التهدئة قريبا، ما يقوي الهواجس ويضاعفها، ويدفع إلى الخشية من أن يتفاقم القلق ويتحول إلى أرق.

وإذا كانت إيران وتركيا تمتلكان من المقومات البشرية والعسكرية والتحالفات الإقليمية والدولية ما يساعدها على استيعاب أي تداعيات سلبية عليها ككيانات ومصالح، فإن دول الخليج بحاجة إلى التحرك في إطار عربي أو بدعم من هذا الإطار لتأمين مصالحها ومواجهة أي انعكاسات غير مرغوب فيها.

وفي وضع عربي مهترئ تتلاشى فيه دول وتتهاوى أنظمة، فإن الدعم المطلوب لا توفره بشكل مبدئي بعيدا عن أي حسابات أخرى سوى دول قليلة آمنة ومستقرة على رأسها المغرب كما دلت تجارب الماضي البعيد والقريب أيضا. ولا شك أن الجهات الرسمية في الدول الخليجية تعي هذه الحقيقة جيدا وتتصرف كثيرا على هديها في الإطار العربي عكس بعض شرائح مجتمعاتها التي تعتقد بوجود نية مبيتة في المغرب للإساءة إليها مستندة في ذلك على ممارسات فردية معزولة من قبيل التضخيم الإعلامي لحالات الفساد الخلاقي التي يتورط فيها مواطنون خليجيون، أو سلوك بعض لوبيات الاستجداء الكثيرة التردد على المنطقة. وتلكم قصص أخرى.