المصباحي: رئاسة النيابة العامة من قبل الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، لايعفيه من المسؤولية والمساءلة

المصباحي: رئاسة النيابة العامة من قبل الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، لايعفيه من المسؤولية والمساءلة

أكد الأستاذ عبد العالي المصباحي، محام عام بمحكمة النقض وعضو رابطة قضاة المغرب، بأنه لا يشاطر رأي بعض الحقوقيين الذين يعتبرون في وزير العدل الرئيس الأعلى للنيابة العامة سابقا، لأنه لا وجود لأي نص قانوني يعطيه هذه الصفة، اللهم المادة 51 من قانون المسطرة الجنائية، التي يمنحه الحق في الإشراف على تنفيذ السياسة الجنائية بعد تبليغها للوكلاء العامين للملك. وأضاف في حوار مع "أنفاس بريس"، بأنه من العيب أن نعود بدستور المملكة والحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة إلى نقطة الصفر، لنكرس من جديد، قضاء يرزح بين رقابة السلطة التنفيذية، و"رئيس" للنيابة العامة لا يمت لجسم القضاء بصلة. فالحراك القانوني الذي يعرفه المغرب اليوم، يقول المصباحي، والطفرة النوعية في المجال الحقوقي التي أصبح يتميز بها عن نظرائه، هي التي أعطته هذا التوجه الصائب في تشييد صرح السلط المنفصلة في اختصاصاتها، والمتشاركة في أهدافها الخادمة للمصلحة العامة..

يجري حاليا نقاش حاد بين المنادين لإبقاء النيابة العامة تحث إشراف ووصاية وزير العدل والحريات، وبين من يطالب باستقلالها عن السلطة التنفيذية، أي ارتباط لهذا الموضوع بمدى تنزيل مضامين الدستور، خصوصا في المسار الديمقراطي للبلاد؟

من العيب أن نعود بدستور المملكة والحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة إلى نقطة الصفر. وهي أسس ديمقراطية ومفاهيم حقوقية متطورة كانت نتاج عمل مجتمع بأكمله، ومباركة ملكية وتشجيع دولي، وذلك لنكرس من جديد، قضاء يرزح بين رقابة السلطة التنفيذية، و "رئيس" للنيابة العامة لا يمت لجسم القضاء بصلة، لنلوك كلاما يفتقد شرعية المرجع ويخدم فكرة تبخيس العمل القضائي، والحد من سلطته، حتى لا يقوم بدوره الطلائعي، في التأسيس لدولة القانون وترسيخ الأمن القضائي. فالحراك القانوني الذي يعرفه المغرب اليوم، والطفرة النوعية في المجال الحقوقي التي أصبح يتميز بها عن نظرائه، هي التي أعطته هذا التوجه الصائب في تشييد صرح السلط المنفصلة في اختصاصاتها، والمتشاركة في أهدافها الخادمة للمصلحة العامة، بل وحتى أنظمة الدول المستدل بها في مجال النيابة العامة، فهي تختلف في تاريخها ومرجعيتها وثوابتها عن نظام هذا البلد، إذ لا مقارنة مع وجود الفارق، فالقضاء والحمد لله يستمد مشروعيته من أمير المؤمنين، لأن القضاء من مهام الإمارة، فهو في ممارسة هذه الوظيفة بتفويض مشروع من أمير المؤمنين، فإنه يستمد الشرعية في البت في القضايا من المجتمع، والنيابة العامة هي ممثلة المجتمع والمدافعة عن حقوقه، والضامنة لمبدأ تخلي المجتمع عن الدفاع عن حقه بالثأر والانتقام وشد حبل العصبية القبلية والعرقية، مقابل ضمان الحق في الحياة والحرية والأمن، وذلك في إطار العقد الاجتماعي الذي سبق أن وقعت عليه كل الشعوب للعيش في مجتمع حضاري تسوده الديمقراطية.  

بعد قرابة 60 سنة، من نهج نظام تبعية النيابة العامة لوزير العدل، ما هي ملاحظاتك حول هذه التبعية من حيث مكافحة الجريمة والقضاء على كل أشكال التطرف والانحراف وإعادة تأهيل الجانحين؟ وهل هناك من المبررات ما يجعل الاستمرار في إبقاء وزير العدل على رأس النيابة العامة؟

لا أشاطر رأي بعض الحقوقيين الذين يعتبرون في وزير العدل الرئيس الأعلى للنيابة العامة سابقا، لأنه لا وجود لأي نص قانوني يعطيه هذه الصفة، اللهم المادة 51 من قانون المسطرة الجنائية، التي تعطيه الحق في الإشراف على تنفيذ السياسة الجنائية بعد تبليغها للوكلاء العامين للملك، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أنه يبلغ ما توافق عليه المجلس الحكومي من توجهات في السياسة الجنائية، ثم يسهر على تنفيذ هذا الأمر من خلال مناشير ودوريات وأنشطة وندوات تروم تنزيل هذه السياسة الجنائية على أرض الواقع، كما يحق له أن يبلغ إلى الوكيل العام للملك ما يصل إلى علمه من مخالفات للقانون الجنائي، وهذا من واجب كل مواطن حسب المادة 43 من "ق م ج"، وله كذلك أن يأمر كتابة بمتابعة مرتكبيها، وهذا ليس حقا في التقاضي حكرا عليه،  إذ كم من إدارة عمومية لها حق احتكار تحريك الدعوى العمومية، وكم من شخص ذاتي أو معنوي له الحق في تحريك متابعة دون المرور عبر النيابة العامة. ولقد أحسن المشرع صنعا حينما ألزمه بأن يكون أمره كتابيا، وذلك لتحديد المسؤوليات ووضع الحد الفاصل بين الأمر المشروع والآخر المشمول بالشطط، طبقا للفصل 225 من القانون الجنائي والمادة 110 من الدستور.

لكن الممارسة والصلاحيات التي كانت بين يدي وزير العدل، المتعلقة بالمسار المهني للقضاة، ورئاسته للمجلس الأعلى للقضاء نيابة عن جلالة الملك، وحقه في انتداب لجان تفتيش شكلت له سلطة فعلية وواقعية على القضاة، بما فيهم قضاة النيابة العامة، فاختلط الأمر في فهم النصوص القانونية، بتجاوز بعض وزراء العدل اختصاصاتهم لما تنازل بعض مسؤولي النيابات العامة عن صلاحياتهم.

ووزير العدل في إطار هذه الاختصاصات الممنوحة إليه، عليه فتح خلايا لحل الأزمة وتوجيه تعليماته الكتابية لمختلف الجهات المعنية بمكافحة الإجرام، لتكثيف الجهود لمحاربة الظاهرة والتصدي لها، والتنسيق مع مختلف الوزارات والمصالح المعنية لتوحيد العمل، والتقدم أمام البرلمان بمشاريع القوانين الهادفة للقضاء على هذا الجنوح، مع إشعار السلطة التشريعية بخطورة الأمر وتحميلها مسؤولية التأخير المحتمل، فبهذا يكون وزير العدل قد ساهم بشكل إيجابي من خلال هذه السياسة الجنائية في القضاء على الظاهرة الإجرامية، التي قضت مضجع المواطنين واستطاع من خلال هذه الاستراتيجية الوزارية أو الحكومية، أن يحقق الهدف من السياسة الجنائية، هذه الكلمة التي يتشدق بها كل متكلم، وتسمعها في الخطابات دون أن تلامسها على أرض الواقع لأنها أكبر من أن تكون موضوع شعارات، أو تقاس بواسطة أعمال بسيطة ومحتشمة، بل هي مشروع مجتمع بكامله، تبدأ من إرادة قوية واهتمام شمولي ومبادرة وطنية وإشراك كلي وتشريع متسلسل، مرجعيته ثوابت الأمة وما استقرت عليه من أحوال اجتماعية.   

في نظرك هل هناك توجه برلماني يدعم فعلا استقلالية النيابة العامة عن وزارة العدل؟ أم أن هناك خلفيات سياسية تريد الإبقاء على الوضع الحالي؟

من خلال تتبعي للمشهد السياسي بالمغرب كمواطن يتصفّح الجرائد وهو يرتشف قهوة الصباح، لاحظت أن مسألة تنزيل مقتضيات الدستور وخصوصا استقلال النيابة العامة التام عن أي جهة، أصبح يطرح كردة فعل وشد للقوة بين الأطياف السياسية، والحال أن هذا شأن مجتمعي عبر من خلاله الشعب المغربي قاطبة عن قناعته في ترسيخ استقلال السلط وتعاونها في ذات الوقت في إطار ديمقراطية تشاركية فاعلة. ولن أزيد في هذا الباب لأن واجب التحفظ يضيق الخناق على ربطة عنقي.

طيب، ما العيب في أن تظل النيابة العامة تحت إشراف السلطة التنفيذية، حتى يكون وزير العدل مسائلا أمام الناخبين؟

بمجرد صدور الدستور الجديد الذي جاء صريحا فيما يخص استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية- علما أن النيابة العامة بطبيعة الحال هي شطر القضاء- كما عزز الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة هذا الطرح، من خلال ميثاقه الذي جاء ليبلور إرادة هيئة توافقية تعكس في تشكيلتها مكونات المجتمع المغربي، لتعطي رئاسة النيابة العامة للوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته هاته. أضحى من الضروري تفعيل هذه الفصول والمقترحات التي تقّر هذا الاستقلال بشكل يخدم مبدأ استقلال القضاء وميثاق إصلاح منظومة العدالة، الذي يطالب بتعزيز ضمانات المحاكمة العادلة في إطار استراتيجية حكيمة ومشروعة، حتى لا تبقى هذه المكاسب حبرا على ورق أو مجرد مقتضيات غير مفعلة.

ودون الدخول في سجال حول مدى إسناد هذه المهام الجديدة وتمركزها في قبضة رئيس النيابة العامة، مع ما يمكن أن يثار من أن الأمر قد يفضي إلى استقواء أو شطط أو استعمال صلاحيات في غير مكانها، فإن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد انتقال مهام من يد وزير العدل إلى يد الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، مع ما يترتب عن ذلك من مسؤولية ومساءلة طبقا للقانون، أضف إلى ذلك أن انتقال هذه المهام إلى جهة مستقلة ومحايدة، ليس لها ميول سياسي أو حزبي، ولا تشتغل تحث إمرة مجلس وزاري أو حكومي، سيجعل من تدبير هذه المهام والوظائف، عنوانا للاستقلالية وطريقا لتحقيق العدالة، علما أن مؤسسة رئيس النيابة العامة، عليها - وكما هو عليه الأمر بالنسبة لجميع المؤسسات الدستورية - رقابة من عدد من الجهات والهيئات المشكلة بمقتضى القانون، وعلى رأسها الدستور الذي جعل قرينة البراءة والحق في محاكمة عادلة مضمونان بمقتضاه (الفصل 23)، وهذه هي أسمى صور العدالة الحقة والديمقراطية العادلة.