كل يوم يتصل صديق من بلد عربي ليسأل عن إمكانية الهجرة إلى أوروبا، وما تتطلبه من وثائق وترتيبات والبلد الأنسب لاستقبال اللاجئين.
صحفيون، كتاب، شعراء، أطباء، مهندسون، فنانون، أستاذة، ومربون، الجميع يرغب في الفرار من الجحيم بأي ثمن.
منذ يومين تحدث إلى صديق وهو خائف ومتردد عن رغبته في مغادرة بلده والصحيفة التي يعمل بها رئيسا للتحرير، والسفر إلى أي بلد غربي، كرر أكثر من مرة: لا أحد يعلم بالأمر، يجب أن يبقى الأمر سرا بيننا.
لكن السر سرعان ما يتحول إلى معلومة وحقيقة مؤلمة، وقبل أن يتنبه الأصدقاء والمحيطون يكون الرجل قد اختفى إلى وجهة ما.
أوطاننا العربية تفرغ يوما عن يوم من رجالها وقدراتها وكفاءاتها.. الخراب يصل إلى كل الجهات، والناس في حالة صدمة وحيرة وخوف وقلق على مصير أبنائهم. جل من حدثوني عن نية الهجرة ذكروا أبناءهم كسبب رئيسي لهذا القرار. الجميع يقول: الأمور تسوء كل يوم، ونخشى على أبنائنا من مستقبل مجهول بلا ملامح.
هل نلومهم؟ لا، فقد سبقناهم وسبقهم كثيرون إلى هذا القرار، لكن مع خبرة عشرين عاما في الغربة، أريد أن أقول لهم كلمة هنا:
من حقكم يا أصدقائي أن تفكروا في الهجرة، فالواقع لا يبشّر بخير والكآبة وصلت إلى العظم، من حقكم أن تحلموا بحياة كريمة ومستقبل زاهر لأبنائكم، أن تروهم يذهبون إلى مدارسهم آمنين دون تحرش، دون أن تنفجر في وجوههم قنبلة في منتصف الطريق. أن يتلقوا تعليما حقيقيا، ينفعهم في مستقبلهم ويوسّع مداركهم وخبراتهم ومعارفهم، أن تجلسوا معهم في مقهى دون خوف من أن يدخل أحد المجانين حاملا رشاشه ليقتل أبرياء باسم الدين، من حقكم أن تحلموا بحياة ليس فيها سبي ولا حرب ولا ذبح ولا تفجير ولا قتل مجاني، وليس فيها كذب ونفاق وغش ومتاجرة بالدين واستغلال للثروات، وميز وكفالة وتجويع وتهميش وبطالة…
كل هذا صحيح، كل هذا موجود وأكثر في دول عبرت بشعوبها إلى منطقة أكثر إنسانية واحتراما للفرد. لكنها فعلت ذلك برجالها، ونسائها، وقدراتهم، وسواعدهم التي لا تعرف اليأس. هل أحدثكم عن النموذج الهولندي؟: لقد دفنوا نصف البحر تحت التراب ليبنوا بلدا من لا شيء، حتى ذهبوا مثلا يتداوله القاصي والداني: “خلق الله الأرض، وخلق الهولنديون أمستردام”.
لقد مروا مثلنا بحروب وجوع وتدمير، ومثلنا عرفوا الذبح وقطع الرقاب والأطراف والسبي، ومثلنا دمرت مدنهم بالكامل، لكنهم بقوا هنا، وانتظروا اللحظة التي غيرت مستقبلهم ونقلتهم من الفوضى والتخلف، إلى الديمقراطية والحرية والمساواة. ولحظتكم قادمة لا محالة، وأبناؤكم هؤلاء الذين ترغبون في مستقبل أفضل لهم، هم الشاهد والذاكرة.
لمن تتركون الأوطان؟ هي أوطان وإن خرّبت، وإن نهشها الإرهاب، وحولتها الدكتاتوريات إلى سجون كبيرة، وإن سال الدم فيها حتى الركب. ستظل مع ذلك أوطانا تحتاج لأبنائها ليوقفوا النزيف، ليضمّدوا الجراح ويبنوا الجدران التي تهدّمت، إذا حملتم أبناءكم وغادرتم تحرمونها مخزونها البشري وتسدّون في وجهها الأفق.
لا تخطئوا خطأنا، لقد فاتنا قطار العودة وطمست هويتنا، وتهنا بين ماضينا وحاضرنا. في النهاية تحول الخراب من خارجنا إلى داخلنا.. كل واحد منا يحمل قنبلته فيه وينتظر انفجارها الرحيم.
(عن "العرب" اللندنية)