انتهت الرحلة الكرواتية وجبل الاسود لتحط بي سفينة يادرانيلينيا من دوبروفنيك إلى "باري" الإيطالية. ليلة كاملة بالتمام، باري، المدينة الساحرة بمينائها وأسوارها التي تشهد على فترات مهمة من تاريخ المدينة من حكم المسلمين لها الى الفنيقيين والرومان وغيرهم. مباني جميلة وعتيقة وساحات خضراء تتوسط المدينة، الحرارة مفرطة تصل الأربعين درجة ، الكل هنا ببحث عن الظل و عن جرعات ماء من شدة العطش .
باري ليس فقط مدينة التراث وجمال العمران، وليست فقط المباني الشامخة والأسوار، لكنها ايضا ميناء يصله آلاف المهاجرين من الهند وباكستان و بنغلاديش، من شمال افريقيا وفي الآونة الاخيرة بدأ يفد عليها سوريون وعراقيون فروا من الحروب التي مزقت بلدانهم، وهم كثرفي شوارع باري .
التقارير التي صدرت عن منظمات المهاجرين في اوروبا ، تفيد بان أوضاع المهاجرين " السريين " واللاجئين كارثية إن لم نقل مأساوية، يكفي النظرالى عيونهم والى نحافة وهزالة أجسادهم لترى المعاناة بعينها. المهاجرون بمدينة باري، لا يسمح لهم إطلاقا الاستفادة من العناية الطبية اوالنفسية كما تدعو الى ذلك مواثيق و معاهدات وقعت اوروبيا و أمميا .
التحقت بحديقة ليست ببعيدة عن محطة القطار الرئيسية ، حيث يلتقي المهاجرون ومن كل الجنسيات يتحدثون الى بعضهم البعض ولكل واحد منهم رواية خاصة في مغادرة البلد الأصلي و " الحريك " الى باري الإيطالية. محمد، عراقي ، غادر البلد بعدما فقد عائلته كلها في الحرب الدائرة في العراق، حكى ل "أنفاس بريس" بأنه دفع كل ما كان يملكه لأحد الأتراك الذي ساعده على الوصول الى باري ، ايام طويلة من الجوع و العطش والخوف من السقوط في قبضة الجمارك و البوليس.
" لقد كان في اعتقادي – والكلام لمحمد- أني سأسلم بجلدي في اوروبا ، لكن هيهات ،أنا هنا ميت ، لا أكل، لا شرب و لا نوم ! و الشرطة تلاحقنا و بعض المواطنين، و هم قليلون ، يتعاطفون معنا و يقدمون لنا فواكه أو وجبات غذائية وخلال أيام كثيرة ، لا نجد ما نأكله فنطرق أبواب الناس ولا من مجيب ."
اما حسن ، مغربي من مواليد خريبكة، فقال لنا و الدموع بادية على عينيه: " والله ان الحياة قاسية جدا ، لقد غادرت بلادي منذ ثلاث سنوات ، بحثا عن لقمة عيش و حياة كريمة فإذا بي أجد نفسي بلا ماوى و لا حياة ، الناس تنظر إلينا و كاننا كائنات من عالم اخر ، نمضي النهار كله متجولين نتسول". وأضاف ضاحكا :"لقد تحولت الى مرشد سياحي بدون بطاقة ، و قال بالدارجة المغربية " و الله اخويا وليت كنخيط المدينة طولا و عرضا بصح باطل زاد كمل عليا رمضان ، وليت نفكر فالوالدة مسكينة و خوتي في هذ الشهر و معنديش حتى باش نتصل بيهم ، بصح الله كريم " هكذا تحدث حسن الى "أنفاس بريس" بنبرة حزينة و صوت مبحوح: " لست نادما على مغادرة البلاد ، كنت هناك فقيرا و الان صرت أفقر مما كنت عليه ! ، لان الخوف من المصير المجهول انضاف الى معاناتي ايضا " و " و بالرغم من تعقد الظروف فاني لم ولن أفقد الأمل " وكشف بانه من حين لحين يشتغل عند الفلاحين و يحصل على اقل من نِصْف ما يتقاضاه الايطاليون و لكن الله غالب !
ودعت محمد و حسن و عدت الى محطة القطار بباري والسؤال عالق بذهني : لماذا توقع الحكومات الأوروبية روزنامة المواثيق و المعاهدات التي تطالب بحماية كل شخص متنقل و ضمان أكله ، شربه و علاجه و في نفس الوقت ، تعلن حربا نفسية ضدهم و تعمل على تجويعهم و تشريدهم ؟
سوْال أعاد الى ذهني ، التقرير الذي صدر مؤخراً عن وضعية حقوق الانسان ، المهاجرين و اللاجئين السياسيين ، لحركة مناهضة العنصرية و التمييز SOS Racisme ، التي وصفت بعض الحكومات في أوروبا بالعنصرية و ديموقراطيتها مطاطية ، تتمدد عندما يتعلق الأمر بمصالحها و تضيق عندما يتعلق الامر بمصالح المهاجرين و اللاجئين. نفاق سياسي بمعنى الكلمة وعلى المنظمات المدنية و الجمعيات المهاجرة تكثيف الجهود من أجل صيانة حقوق الانسان و ربط علاقات صداقة و قوية مع الأحزاب اليسارية و التقدمية المتعاطفة مع المهاجرين و المعادية لكل أشكال التمييز العنصري في كل دول الاتحاد بهدف توعية الرأي العام في المجتمعات الاوروبية من جهة و محاصرة الأحزاب ذات التوجه الفاشي من جهة اخرى. كما دعت SOS Racisme دول الاتحاد بالكف عن استعباد المهاجرين او إذلالهم و الكف الفوري عن الملاحقات و المتابعات الغير قانونية و ضرورة تفعيل القوانين الواردة في الاتفاقات الاممية المتعلقة بحقوق الأفراد و الجماعات في التنقل و حياة كريمة .