درس الافتتاح لرمضان هذه السنة للأستاذ أحمد التوفيق: "أبو العباس السبتي ومذهبه في التضامن والتوحيد"، يوم الخميس 18/6/2015، يفرض باعتبار سياقه ورسائله -خارج دواعيه الرسمية المعبر عنها بتدبر"الموافقات التاريخية"- وقفة استجلاء، تجعل من هذا الدرس، لحظة استعادة الأستاذ التوفيق لوعيه التاريخي، بعد لحظات عصيبة في ممارسته، كان فيها يراوح الخطو على جبهة المفارقات التاريخية، مما مثل بهذه اللحظات ردة عما هو مستفاض في شخصيته، ومن ثم إحراجا كبيرا لالتزامات صاحب الأمر. ونسجل هنا في هذه اللحظات، خارج مجال التدبير، ثلاث محطات:
الدرس الرمضاني المحتفي بمقدم الحكومة الملتحية في 24 يوليوز 2012، والذي أطلق فيه رصاصة الرحمة على المشروع المجتمعي الحداثي الديمقراطي لصاحب الأمر، الذي أضحى بدوره حسب منطوق هذا الدرس ممن يخاف من الدين، فأضحت مرجعية إمارة المؤمنين -بهذا التشقيق على أفعال القلوب- لا تضمن الطمأنينة الروحية، حتى لأمير المؤمنين. في الوقت الذي منح فيه الخوارج، خصوم الهوية المغربية، مشروعية الوصاية على ضمير الأمة، باعتبارهم ممن يخافون على الدين. وفي السنة قبلها، سنة الإقرار الدستوري لعهد محمد السادس انزلق الأستاذ التوفيق، إلى تجنيد المؤسسة العلمية للرد على انتقاد "الأمير الأحمر"، لدرسه الرمضاني لسنة 2011. ومن باب المفارقة، لم يجند هذه المؤسسة للرد على منتسبي الحزب الحاكم في انتقادهم للبيعة وطقوسها، وفي طليعتهم الأستاذ الريسوني، الذين شغلوا الرأي العام لأزيد من سنة. وكانت حرارة حمية هؤلاء قد وصلت إلى ممثل سوريا في الأمم المتحدة، بشار الجعفري، والتلفزيون السوري، للتهجم على المغرب. وقد مثل الأمر سابقة معلنة، في تقاطع النقاش الأصولي الداخلي، مع مصالح خارجية، للمساس بالتطور الطبيعي السلس، والمندمج لرمزيات مؤسساتنا الوطنية.
تلاوة آيات الحاكمية في حفل ليلة المولد النبوي-تزكية لموجة التكفير ضد القوى الديمقراطية- بمسجد أبي العباس السبتي بمراكش، 13/1/2014. وقد اعتبرنا في وقته أن هذه التلاوة لا تستقيم باعتبار خيارات البلاد ومرجعيتها، وأن حفل ليلة المولد النبوي الشريف ينبغي أن يغتني أكثر بدلالة السياق دينيا ووطنيا، وقلنا في "الأحداث المغربية": "فهل يعقل أن يكون الجواب، خارج مناسبة ليلة المولد، وفي مسجد أبي العباس السبتي الذي أبدع مفهوم: الوجود ينفعل بالجود؟ فكيف سينفعل الوجود السياسي والديني في البلاد بهذا الانزلاق، وقد غابت معه حتى الكلمة الطيبة كأحد مراتب الجود الإنساني؟" واستعرضنا أن الاحتفال بالمولد، "إلى جانب اليقين الديني فيه، له بعد اجتماعي، يتمثل في مناخ التعبئة والتضامن لإحياء ليلته وما يتلوها من ليالي". و"كان الولي أبو مروان عبد الملك اليحانسي، يسهر لما استقر في سبتة، أو بعدوة الأندلس، على إحياء هذه الليلة بالطعام والسماع. ويحضرها المريدون والمحبون، حيث يمتد هذا المظهر الاحتفالي ثمانية أيام متتالية (..) فأين نحن اليوم من حكمة أبي العباس العزفي وأبي مروان اليحانسي؟". ما كتبناه يومئذ حول رمزية الفضاء ورمزية المناسبة، يجعل من تلك التلاوة وهي تغازل التكفيريين، مفارقة رسمت القطيعة مع السياق الديني والوطني. وألحقت بانقلابها على الوظيفة المدنية للدولة، ضررا معنويا بصاحب الأمر، لا تنبغي الاستهانة بارتداداته.
كلمته الافتتاحية في ندوة المجلس العلمي الأعلى حول السلفية 2/4/2015، حيث منح الوهابية التقليدية مشروعية الفضل ومشروعية العمل في الحقل الديني بقوله في مطلع وخاتمة هذه الكلمة، حسب تغطية "الأحداث المغربية"، لمجمل التدخلات: "المغاربة اليوم كما الأمس كلهم سلفيون على قدر أرزاقهم في الاقتداء (..) نحن لا نسعى إلى تحرير فضاء محتل، بل نسعى إلى فسح المجال للجميع". كما مثل تقبيله لرأس الشيخ زحل، تزكية لتقديمه عرض العودة بنا إلى زمن سنوات الرصاص. حيث جعلت هذه الندوة من المغرب بهذا التأطير، إمارة وهابية للسعودية الدعوة.
واندرجت هذه المحطات، وهذا من الموافقات/ المفارقات، ضمن عهد الحكومة الملتحية. فمنذ إرهاصات مجيئها، ورجل الأستاذ التوفيق على دواسة السرعة القصوى. وهو مزهو بالقبضة العسكرية/ الأصولية، وبجبهة توائمه التي توطئ له أكناف الحظوة، وتسحق له الأصوات المخالفة، والأوقاف المطهرة تعبد له الطريق، حتى في بهموت الاستبداد. وماذا بعد؟
في النهاية لم يصح، إلا الصحيح، بفضل عطف صاحب الأمر عليه، فكان درس أبي العباس السبتي بردا وسلاما على الأستاذ التوفيق. كان متألقا، استعاد دوره كمؤرخ رصين، وكمثقف عضوي، وكمسؤول يحمي الحمى. ابتهجت بسماعه، اتصلت قبل المغرب وبعده، ببعض الأصدقاء، نتبادل الارتسامات. تعددت أوجه التقاط رسائل هذا الدرس المثمر وإشاراته، بشأن السلم الاجتماعي، والرد على الوهابية، والتأويل الاجتماعي للدين، ولاهوت التحرير.. مازلت أذكر يوم جمع له الوزير المدغري، ثلة من "العلماء" لـ "سخسخته"، في جلسة المناقشة عقب درسه الرمضاني، من جملتهم الأستاذ خبيزة رحمة الله عليه. لم أقبل هذا المسلك في حق "زعامة المتقين"، هكذا كنا نخاله، مثلما لم أقبل في المقابل، أن يعمد الأستاذ التوفيق، لما أصبح وزيرا، إلى توظيف "الحزب" الذي خلف فيه الأستاذ المدغري على رئاسته، ضد الأساتذة:الجراري والخمليشي وعبادي..، لدرجة بدا فيها الحقل الديني بدون ضابط، مما يصعب معه الحديث عن إستراتيجية دينية للدولة المغربية.
درس الأستاذ التوفيق خطوة في الاتجاه الصحيح، على درب تدبر "الموافقات التاريخية". وإذا توسلنا بصرامته الأكاديمية في مقاربتنا لهذا الدرس، فيمكن تدبر موافقات أخرى، نرجئها إلى مقال لاحق، نضع فيه أبا العباس السبتي، بغاية التقاط لباب المعنى، ضمن مشروع المهدي بن تومرت. وتبقى خطوة الأستاذ التوفيق، في حاجة إلى خطوات مماثلة مقدامة. لعل في مقدمتها النظر في التكامل المفترض، بين أذرع الحقل الديني، ومراجعة مجمل سياسته المتعلقة، بالوعظ عبر التلفاز، وبعمل الأئمة والمرشدات، وبميثاق العلماء، وبالتعليم العتيق، وبنحت مواصفات العنصر البشري في تحمل المسؤوليات الإدارية، وفي إسناد المهام الدينية، وببياضات البناء القانوني، الذي تتسلل منه الأصولية لمزيد إحكام سيطرتها على الحقل الديني. فهل يمكن أن نحلم بلحظة نرى فيها الأستاذ التوفيق يمارس فضيلة النقد الذاتي، مسترشدا بما قاله الأخ الأستاذ سي محمد الساسي في غشت 1999: "إن من يحب ملكه، عليه أن يقول له الحقيقة كاملة".؟ هل سنقف بعد اليوم، على نهج القطيعة مع سياسة التدليس لتقي الدين الهلالي، المؤطرة للحقل الديني اليوم؟
وخارج أحاسيس التمنيات -وأنا لا أخفي تعاطفي مع الأستاذ التوفيق، لأن حدوسي كانت ترى فيه، وبقدر من المجاز، امتدادا لـ "الطائفة التومرتية"، حيث من المفترض بهذا الاعتبار، إدراكه لعمق مقالنا: "الدولة والمشروع، من المهدي بن تومرت، إلى محمد بن الحسن"- تبقى هناك أمور موضوعية، في سياق معادلة الدولة والمشروع، نجملها كما أجملتها منظومة التصوف في المغرب، عبر معادلة سنة الإنسان، في عمله المتبوع بعده: "يوم ندعو كل أناس بإمامهم". فأي إمام تريده لنا توائم الأستاذ التوفيق؟ هل: "وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا"؟ أم: "وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار"؟
للاطمئنان على سلامة الأفق، ينبغي انتهاج مقاربة مغايرة تقطع تمام مع سابقتها، والبداية من هذا الدعاء للشيخ الماجري: "إلهي قد توسمنا من زي المتقين بهذه الملابس، وتقربنا إليك في زعمنا بفعلها، والفعل متلابس، وخوادع آمالنا قد صيرتنا في أسر الذنوب محابس، وغرور هوانا قد غر عقولنا، فهي على المهالك كوابس. فيا ملاذ العارفين، ويا أمان الخائفين، خذ بيد من زلت به قدم الفطنة في مزالق فتنة المجالس، فهو لديك وهين فقير، عديم من جملة المفالس."!
ما عدا هذا المدخل، فلن نكون إلا أمام حصيلة الإفلاس. أراها رأي العين. وتبقى العاقبة للتقوى، وسيكون حسن هذه العاقبة، من كرامات زجر اللطيف، يا لطيف !