محمد أنفلوس: الباعمرانيون بين زواكة البلدية وزواكة الوقاية المدنية

محمد أنفلوس: الباعمرانيون بين زواكة البلدية وزواكة الوقاية المدنية

هي أحد المعالم الكبرى المميزة لشهر رمضان بسيدي إفني. ربما جيل السبعينات والثمانينات وحتى التسعينات هو من يقدر الزواكة حق قدرها. فقد مرت الزواكة بلحظات عصيبة قاومت فيها كل أشكال التكنولوجيا قبل أن تعلن استسلامها و تتوارى في صمت لأن ﻻ أحد أصبح يسأل عنها أو يعيرها اهتماما.

لقد تفرق دمها بين قبائل الثورات التكنولوجية، واستباح الأعداء ملكها وعزتها، فالله يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء .

أول أعداء الزواكة كان الميكروفون أو البوق فالجيل الذهبي بسيدي إفني لم يكن يسمع آذان الصلاة إﻻ مشافهة وﻻزلت أذكر جدي "كابوخوبي" أطال الله في عمره حين كان يصعد إلى الصومعة رافعا صوته بالآذان ليعلن دخول وقت الصلاة. كانت البركة تلف صوته حتى أن المدينة كاملة كانت تسمعه لأن المنازل لم تعرف بعد ضجيج التلفاز الدي يشتغل اليوم كله. وأن الكل كان يرخي سمعه ليتلقف الصوت خصوصا حين يلامس قرص الشمس صفحة البحر ولأن جبل بولعلام كان يردد صدى المئذنة القريبة منه بقوة وبأمانة وبمحبة..

حين دخل الميكروفون إلى بيوت الله شهدت المساجد كعادتها نقاشا فقهيا عن جواز أو عدم جواز استعماله ولكم أن تتصوروا أول جمعة بميكروفون وحالة الخطيب المتلعثم من ضخامة صوته وحالة المصلين غير مصدقين سحر الآلة التي أنتجها العلوج الطراطير ..

بعدها لم يعد جدي يصعد إلى المئذنة لكي يؤذن في الناس بل اكتفى بالميكروفون في الطابق الأول وشيء من الحزن يخالط صوته الجهوري. اعتاد الناس على الجهاز الجديد ورغم ذلك بقيت الزواكة تمارس طقسها الرمضاني كل يوم. حين أذن جدي خطأ ذات يوم قبل موعد الإفطار بحوالي عشر دقائق، عادت للزواكة بعض هيبتها وبدأ الناس يشكون في مصداقية نداء الصلاة ولم يعد اإنسان يفطر حتى يسمع مؤذنين على الأقل.

ثاني أعداء الزواكة كان ساعة "سايكو" اليابانية والتي غزت الأسواق بثمن بخس دراهم معدودات.. أهم ما كان يميزها رنتها الثنائية” تتت تتت “التي ﻻتخطئ وقت الآذان ..كانت سوداء اللون ويمكن غمسها في الماء وبطاريتها اﻻسطوانية الشكل موجودة بكثرة وبثمن زهيد.. والأجمل أنها تتوفر على مصباح جانبي يضيئها ليلا..كانت موضة العصر خصوصا بالنسبة للرياضيين الذين يزينون بها معاصمهم لتوفرها على كرونو لحساب توقيت العدو ..وكانت فوق كل هذا أحسن هدية تقدمها النساء للرجال ..

ولكن رغم هذان الخصمان اللذوذان فقد استمرت الزواكة كقدر رمضاني ﻻ مفر منه..

ثم جاء البارابول ليلتهم أسطح المنازل ويضفي على البيوت مسحته العجيبة.. أدخل العالم الواسع إلى غرفنا الضيقة وبدأنا نتابع كل شيء وأفواهنا مفتوحة عن آخرها.. حتى أننا في رمضان أصبحنا نتابع كل إفطارات العالم.. وما إن يرتفع آذان الرباط وسلا وما جاورهما حتى ندرك أن الزواكة ستصرخ بعد عشر دقائق على اأكثر..

كنا ونحن صغار نجري إلى حائط مقر بلدية سيدي إفني، لأن الزواكة الأولى كانت تقبع بسطح البلدية.. كنا نتسابق نحن أطفال الكاطع لنعتلي الحائط لنفوز بأقرب نقطة من هده الآلة السحرية وما أن يدوي صراخها حتى نصرخ بكل ما أوتينا من قوة ونحن نضع أكفنا الصغيرة على آذاننا ..كان صوت الزواكة يبدأ مرتفعا حتى يصل إلى نقطة قصوى ثم يعود ليخفت تدريجيا حوالي أربع دقائق.. كانت أجمل دقائق اليوم وأشدها فرحا.. لم نكن ندرك الحديث النبوي أن للصائم فرحتان، فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه..بل كنا نعيشه بكل تفاصيل الفرح الطفولي الغارق في المتعة البريئة..

ثم جاء "البورطابل"، وجاء معه شعار عالم جديد يناديكم ..جاء مثل كريستوف كولومبس ..كنا نحن الهنود الحمر الذين سلبت أموالهم وقيمهم وحضارتهم ..لقد سلب منا البورطابل زواكتنا ..

كانت أمي شفاها الله تعتقد أن الزواكة هي من يعلن وقت الفطور ووقت السحور.. وحين أضافوا الزواكة بمقر الوقاية المدنية لم تعد تدري هل تفطر مع زواكة البلدية أم تنتظر زواكة الوقاية.. من الحكايات المضحكة أنه في بداية التسعينات وبالضبط حين اندلعت حرب الخليج الأولى، كاد بعض السياح بفندق "سويرتي لوكا" أن يفقدوا عقلهم حين دوى صوت الزواكة وخلت الشوارع من المارة، فقد ظنوا أن صواريخ سكود العراقية وصلت سيدي إفني حتى جاء صاحب الفندق ليهدأ من روعهم..
الزواكة كانت تعلن عن الفطور وعن السحور والأهم أنها كانت تعلن عن عيد الفطر.. الزواكة علمتنا أن ﻻمعنى للفرحة مالم تتقاسمها مع أحد فتصبح أكبر على عكس قانون القسمة.. الزواكة علمتنا أن نجري إلى بيوتنا بكل فرح طفولي حين نسمعها نهاية الشهر ونرتمي في أحضان أمهاتنا ونحن نصرخ لقد زوكت يا أمي مبروك العواشر..