الإطار التربوي الحسن اللحية: غياب اليسار عن إشكالية التعليم، يعجل بنهايته (الجزء الأول)

الإطار التربوي الحسن اللحية: غياب اليسار عن إشكالية التعليم، يعجل بنهايته (الجزء الأول)

لاشك أن تاريخ الصراع السياسي في المغرب عبر عن نفسه وسط المؤسسات التعليمية منذ 1965 إلى اليوم، بحيث أن تعبيراته كانت تعكس المطالب السياسية ومنها التعليمية مكثفة في شعارات متنوعة.

إن تاريخ الإصلاحات في المغرب كما سبق وبينا في إحدى مقالاتنا (تاريخ الإصلاحات في المغرب منذ 1956 إلى اليوم) تبين أن اليسار كانت له ردود فعل متفاوتة تجاه كل إصلاح من تلك الإصلاحات، كما تتفاوت تلك الردود من توجه يساري إلى آخر.
والحاصل أن اليسار المغربي عبر عن رؤاه الرافضة شعاراتيا (و ننبه أننا لسنا هنا بصدد دراسة لكثافة المعنى في الشعارات أو تصنيفها حسب التوجهات اليسارية أو دراستها دراسة تاريخية تكس درجة الوعي بالمطالب، والمطالب ذاتها المرفوعة في كل مرحلة من مراحل الصراع السياسي)، فالشعارات المتداولة بين اليسار المغربي كثيرة ولا حصر لها، ومنها ما يلي:
 "نقصو من البوليس و زيدونا فالمدارس"
"هذا تعليم طبقي أولاد الشعب فالزناقي"..
ثم إن اليسار المغربي رفع شعارات ضمن خطاباته عن التعليم تتمثل في دمقرطته وتكافؤ الفرص فيه ووجوب شعبيته وجماهيريته وتعميمه..
إن المتتبع لهذا التاريخ المتعرج لعلاقة اليسار المغربي بالتعليم سيتوقف عند مايلي:
أولا: إن اليسار المغربي كان أول من يقوم برد الفعل تجاه الاصلاحات المتتالية ، وقد ضحى من أجلها تضحيات كثيرة منذ أول تظاهرة تلاميذية في سنة 1965 إلى اليوم، سواء في القطاع التلاميذي أو الجامعي.
ثانيا: إن مستوى ردود الفعل والرفض للإصلاحات كانت بالاحتجاج والتظاهر والتجمعات الجماهيرية والاعتصامات …إلخ، مما ترتبت عنه أعداد كبيرة من الشهداء والسجناء والمعتقلين الذين قدمهم اليسار من أجل مطالبه سواء داخل الجامعات أو غيرها من المؤسسات التعليمية؛ غير أن هذه التضحيات الجليلة والكبيرة كانت أقوى بكثير من التنظيرات السياسية والفكرية والأكاديمية في التعليم، وهو اللاتوازن الذي سيسم تاريخ اليسار المغربي في علاقته بالتعليم بين التظاهر والاحتجاج والتضحيات من جهة، والتنظير الفكري من جهة ثانية.
ثالثا: سيسجل التاريخ أن اليسار المغربي كان وحيدا إلى جانب الجماهير التلاميذية و الطلابية والمنظمات الجماهيرية و التنظيمات اليسارية و العمالية كالكدش ( في فترات تاريخية معينة) في مواجهة الاصلاحات المطروحة منذ 1956 إلى اليوم، فلم يسجل التاريخ يوما أن أحزاب اليمين أو الاسلاميين رفضوا الإصلاحات أو دخلوا في أشكال نضالية ضدها.
رابعا: إن الباحث في تاريخ اليسار في علاقته بالتعليم تنظيرا وتأليفا لن يجد إلا كتابات قليلة جدا جدا، على عكس الشعارات المرفوعة والتضحيات التي قدمها اليسار المغربي من أجل التعليم. ولعل الباحث لن يجد غير كتابات تتعرض للتعليم في سياق السجال السياسي والإيديولوجي كما هو حال مع الأستاذ الجابري إن اعتبرناه يساريا أو ما كتبه عبد الواحد الراضي عن التعليم أو تلك الحوارات التي نشرت لعبد الله ساعف وهو يدبر شأن الوزارة.
وخلاصة الأمر أن التأليف اليساري في التعليم يكاد يكون منعدما من وجهة نظر تخصصية وأكاديمية حتى يؤسس لرؤاه اليسار ذاته.
إن ندرة التأليف والتنظير اليساري حول التعليم والتربية والتكوين ستكون له تداعيات كثيرة على اليسار ذاته، ومن بين وجوه هذه الأزمة سنجد ما يلي:
أولا: نلاحظ أن جل الاحزاب التي تقول بأنها يسارية، وجل المنظمات والتنظيمات والحركات اليسارية قد فكرت في هيكلة ما تضم التعليم إما في شكل لجن أو قطاع، غير أن هذه الهياكل واللجن لم تكن يوما لجنا أو هياكل في البحث والتأليف والرصد والتتبع والأرشفة …، بل لم تفكر في الجانب الفكري والتخصصي والبحثي؛ إذا ظلت حبيسة الهيكلة التنظيمية العامة.
كما أن هذه الأحزاب والتنظيمات والحركات المنتسبة لليسار لم تفكر يوما في مراكز للبحث في التعليم حتى تضع سياسات تعليمية قطاعية مبنية على القراءة والبحث والتصورات الفكرية اليسارية.
ثانيا: إن ما يصدق على الأحزاب والمنظمات اليسارية يصدق على النقابات ذات المنزع اليساري الاشتراكي .
فماذا تعني وجود نقابات بدون مفكرين وباحثين ومراكز البحث؟ ماذا يعني رفع مطالب بدون معرفة عالمة بالسياسات العمومية قطاعيا، وبدون دراسات ومخططات استراتيجية استشرافية، ومن دون تصورات مقارنة بين الدول تلهم العمل النقابي وتقدم البدائل؟….
إن غياب البحث والفكر الأكاديمي والتخصصي في الأحزاب والنقابات والحركات والتنظيمات اليسارية بعامة تترتب عنه عدة معضلات منها:
1.
انسداد الأفق السياسي والفكري في التعليم بخاصة.
2.
العجز عن اقتراح البدائل في أي قطاع قطاع، وهو ما يحدث في قطاع التعليم، بحيث أن جل المنظمات والأحزاب والنقابات أضحت تردد ما تقوله الدولة أو الوزارة في التعليم.
3.
انعدام الأفق اليساري بالنسبة لليسار ذاته في التصورات التعليمية، فهذا اليسار المحتج هنا وهناك وهنالك لا يستطيع أن يقدم قراءات يسارية اقتراحية للتعليم، أي أن اليسار يختزل ذاته في الشعار ويساير الدولة والوزارة في تصوراتها، والدليل على ذلك واضح منذ مدة طويلة، وبالتحديد منذ سنة 2000 حينما بدأ العمل بالميثاق الوطني للتربية و التكوين.
فاليسار (إلا النهج الديمقراطي) تبنى الميثاق الوطني للتربية والتكوين دون شروط ولا اشتراط، وتبنى المخطط الاستعجالي وتبنى التدابير التربوية والبيداغوجية دونما تقديم أي اقتراح بديل.
كان من المفروض أن تكون لليسار تصوراته اليسارية البديلة في التعليم سواء على المستوى السياسي أو النقابي أو الأكاديمي. والحال أن و ضعية اليسار في التعليم تنبئ بنهايته لانعدام مغامراته الابداعية والفكرية والاقتراحية.
ففي السياسة التعليمية لا يتعدى سقف اليسار ما طرح في الميثاق -إن فهم فهما دقيقا- وفي التدبير لا يتعدى سقف مطالبه مشاريع الوزارة . وأما في النقابة فقد أصبح تابعا لمقترحات الوزارة (الموارد البشرية) لا يجتهد في اجتراح تصورات أصيلة (فلنفكر في مشكل الإطار والتنسيقيات والإدارة التربوية و التفتيش …إلخ)
إذن، إن اليسار محاصر ضمن رقعة الوزارة في التعليم فأضحت تصوراته السياسية ضمن كهف التصورات الماكروسكوبية التي تقترحها الدولة. فأين اليسار إذن؟ ما الذي يجعله يسارا في التعليم؟
إن اليسار في التعليم أضحى تقنيا كباقي تقنيي الوزارة، لا يقارب القضايا المطروحة بيساريته التي من المفترض أن تشكل قوته الاقتراحية ، والدليل على ذلك أن اليسار اليوم لا يحتج على القضايا البيداغوجية ولا على المرجعيات والغايات التي تستند إليها الوزارة في تدبير شأن التعليم.
وهكذا فاليسار الذي يسوق لمشروع مجتمعي بالقول لا يدرك أي مدرسة و لا أي جامعة يريد فعلا، وليست له تصوراته التربوية والتعليمية والفكرية والمعرفية لوظائف المدرسة اليوم، والدليل على ذلك هو انحسار أفقه فيما تطرحه الوزارة في كل شيء، وأن اجتهادات جمعياته وفاعليه في النوادي و الجمعيات التربوية الحقوقية أو لنقل بالإجمال الأنشطة المناسباتية ليست إلا علامة على أزمته وربما نهايته.
فما المطلوب من اليسار كي يستعيد يساريته في التعليم إذن؟

يتبع..