يمكن القول مباشرة من منطلق ما راكمناه من الكتابة حول هذه الندوة، أنها تمثل أصدق تعبير عن "اللسان المعرب عن تهافت الأجنبي حول المغرب". استعرنا عنوان كتاب المؤرخ العلامة أبي عبد الله السليماني، لتوصيف سلفية المجلس العلمي الأعلى لا غير. أما مضمونها وغاياتها، فلا علاقة لذلك بوطنية هذا السلفي ووعيه التاريخي في تحصين البلاد. لقد مهد السليماني للمادة التاريخية التي يبلورها عنوان تأليفه بذكر الخلفاء الراشدين، وصفة تخطيط الأمصار على عهد السلف، وذكر الحسن بن على وفاطمة بنت رسول الله (ص)، الخليفة الخامس، وذكر آداب أهل البيت ومفيد كلامهم، وذكر آداب السلف الصالح ومفيد حكمهم. ليعقب مادة الأطوار التاريخية للمغرب، بتشوفه إلى إفهام عامة رجال البلاد المغربية مسائل الاقتصاد، والأخلاق والآداب العمومية وما يتعين تعاطيه في المعارف العصرية وبيان الحرية والمدنية وتحقيقهما، والتوفيق بين الفلسفة الحديثة والعقيدة الصحيحة، وذكر ما يجب للأمير على رعيته، وما يجب لها على أميرها. ندوة السلفية لا علاقة لها بهذا الأفق الوطني، إنها على العكس، تمثل "اللسان المعرب عن تهافت الوهابية حول المغرب"، فكان الافتراء على السلفية المغربية/ لاهوت التحرير والبناء الوطني المستقل في البلاد.
سلفية المؤرخ السليماني -وهي مفيدة للمؤرخ التوفيق- كانت موصولة بالمستقبل/ النهضة، حيث يقول عن تأليفه: "وأرشدت فيه حسب الإمكان، لما يتعين تعاطيه في هذا الزمان. رجاء أن تنهض هذه الناشئة المغربية وتنفض غبار الكسل عنها وتتحلى بما كان عليه سلفها الصالح وأخذ منها. وعل وعسى أن يرعوي كل غافل لاه، عملا بقول مولانا جل من قائل: "وذكرهم بأيام الله". ومما زادني على جمعه نشاطا، فعكفت على كتابته اغتباطا، ما أنسته من رجال حكومتنا من التشوف لتجديد نظاماتها، سنة ستة وعشرين وثلاثمائة وألف.. فارتبطت السلفية في وقته بالتعبئة الشاملة للبناء الوطني.
لذلك، سأتمم ما بقي في المقال السابق من حفريات تشكل الوعي الديني في مواجهة الوهابية، على عهد المولى سليمان، ليقيس الأستاذ محمد يسف بنفسه، منجز العلماء في الماضي، بمنجز ندوة المجلس العلمي الأعلى وهي تزيف التاريخ الحضاري والمذهبي والسياسي للبلاد. وسأكتفي في بيان وضوح الرؤية المغربية، بمطلع ثلاث رسائل، وبملمح من دبلوماسية النصيحة لآل سعود في رسالة رابعة:
أ- "وبعد، فالظاهر في هذه الأزمنة الصعبة المدلهمة، جماعة من قبل المشرق، شوشوا على عامة المسلمين عقائدهم، وكفروا من خالفهم من الأمة. وألف بعض رؤسائهم في ذلك رسائل، واستدل لما ادعاه بما توهم معدودا من الدلائل".
ب "الحمد لله، لما قدمنا الكلام في قمع حجج وردت من بعض بدو أهل الناحية الشرقية، ألزم فيها تكفير الأمة المحمدية، فاستوجب بذلك الشقاوة الأبدية، سنح لي أن أذكر ما خطر بالبال من كلام فحول الرجال، وأنه لا يكفر أحد بذنب من أهل القبلة".
ج- "أما بعد، فإنه ورد من ناحية البدو وناحية المشرق كلام مبطل غير محق، يحتج فيه بآيات قرآنية وأحاديث نبوية يؤيد ما هو عليه من الاعتقاد، ويصحح ما اعتقده من الفساد. ويستدل على من خالف مذهبه فهو مشرك، والعياذ بالله. مشوش على عامة المسلمين عقائدهم. وأثبت لهم ما يخلف مرادهم، حاد بذلك عن الصراط المستقيم. فوجب الاعتراض على مذهبه السقيم، ولزمه ما ألزم واحد منه أظلم. ولا أظلم ممن يستدل بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وهو غير صالح لمفصله ومجمله، وفهمه ومحتمله. وكل محتاج إلى كل ما يبينه أمر السنة ويعيّنه".
د- "ولعل ما ينقل عنكم من تكفير جفاة الأعراب، إنما هو فيمن استحق منهم باعتقاد ما يخالف، ما علم من الدين ضرورة. إذ الظن بكم التثبت في الأمور، لاسيما في هذا المقام الصعب. فلا يخفى عليكم ما ورد في تكفير عوام المسلمين من التشديد وغاية الوعيد الشديد".
تكفي شذرات هذه الرسائل من عهد المولى سليمان. وفيها ما هو مكتوب باسمه، لإدراك طبيعة المناخ الملغوم الآتي من المشرق العربي يومئذ، والتوهمات التي تركب مفهوم الدليل، ولإدراك حدة الوعي المغربي بخطورة تكفير عوام المسلمين ومسؤوليته في رد الأمور إلى نصابها، من مدخل العقيدة الأشعرية.
وحتى مواقف الاعتدال تجاه الوهابية، لم تتجرأ على محو الفواصل المذهبية. فعلى عهد سيدي محمد بن عبد الرحمان، انشغل العلامة أبو عبد الله الكنسوسي بالموضوع بقوله: "وغاية ما يقال في الوهبي المذكور، أنه من غلاة الحنابلة، أتباع الإمام أحمد رضي الله عنه، مثل ابن تيمية وابن حزم. فإن الحنابلة رضي الله عنهم، لهم مسائل ينكرها غيرهم من أرباب المذاهب، ولا يضرهم ذلك. وهكذا كل أهل مذهب لا يقولون إلا بقول إمامهم، وينكرون غيره".
وسواء مع هذه الرسائل أو هذا التقييم، فنحن أمام وعي بالفروق المذهبية، ومسؤولية المغرب في حماية عقائد المسلمين من الطعن، ودمائهم من السفك، وحماية مشروعية الأمة والدولة في المغرب من الهدم. لذلك لم أفهم سكوت الأستاذ أحمد التوفيق، على تزييف الشيخ السلفي محمد زحل في ندوة المجلس العلمي لتاريخ الحركة الوطنية، وسكوته عن الشحن الإيديولوجي من خلال عرض اصطفاف جديد بين الأصولية والقصر، ينهل من سنوات الرصاص ضد القوى الديمقراطية. لم يرد الأستاذ التوفيق على عمق هذا الانحراف، بل هرول ليقبل رأس التزييف والفتنة. التقطنا الرسالة، وربما هرول في اتجاه آخر لتبليغ أصل هذه الرسالة وبهاجس سباق من يملك الملك؟.
كذلك لم أفهم لماذا عمد الأستاذ التوفيق، إلى تسوية الوهابية كحركة تكفيرية، مع المغاربة في السلفية، ومنحها مشروعية احتلال الفضاء الديني؟ هل ضمن لنا، في إطار المعاملة بالمثل، نفس الحق في بلاد الحرمين؟ أكيد أن هناك فرقا بين الاعتدال والانبطاح. أما وهم القبضة العسكرية/ الأصولية، فلن ينطوي في النهاية إلا على ريح صرصر عاتية. ألم تكن الهزات الارتدادية لزلزال هذه الندوة في كلية أصول الدين بتطوان، على لسان الأستاذ محمد الروكي ضد الأدبيات المذهبية في العبادات، وتضليل التصوف المغربي، واضحة في انحراف وظيفة جامعة القرويين، على أيدي المحسوبين على أصولية المخزن ممن أطر وحضر ندوة السلفية؟ ألم يكن احتضان المجلس العلمي بالمضيق -وبفاصل يوم واحد عن ذكرى 16ماي الأليمة- لتكفير أصحاب الحداثة والتصوف والتعريض بصاحب مدونة الأسرة أمير المؤمنين، والتهكم على القطب مولاي عبد السلام بن مشيش، واضحا في ترابط انحراف وظيفة المؤسسة الدينية؟
رحم الله علماء المغرب، منذ عهد المولى سليمان إلى عهد سيدي محمد بن الحسن على دورهم -في سياق الرد على الوهابية- في حماية مختلف أوجه مشروعية المغرب الدينية. وهي مشروعية لا تتوفر لغيره من الدول. فإمارة المؤمنين عندنا جامعة لميراث النبوة والرسالة والخلافة، لتأتي ندوة المجلس العلمي الأعلى بتحالف الوهابية والإخوان المسلمين لتضرب هذه المشروعية عروة عروة. ضربت التصوف المغربي، وفي ذلك ضرب لميراث النبوة. وضربت المذهب المالكي، وفي ذلك ضرب ميراث الرسالة. وضربت العقيدة الأشعرية، وفي ذلك ضرب للإمامة العظمى، كقبس من ميراث الخلافة. فأين هم حماة البيضة، من هذا الهدم الممنهج لقواعد البيت في هذا البلد الأمين؟
لذلك سألتفت إلى الأستاذ محمد يسف، وأنا أعرفه في حال الصفو يصغي، ويلهمني صفاؤه. هل يشرفه أن يتوج مساره ككاتب وأمين عام المجلس العلمي الأعلى منذ ثمانينيات القرن الماضي بندوة، بمثل هذه الحصيلة الإيديولوجية والسياسية في الداخل، والانتظام خارجيا في مساق جموح السياسة الدينية للسعودية الدعوة؟
لا شك أنه يلزمه بعض البوح، وكثير من النقد الذاتي، فمنجز ندوة السلفية أعطى المشروعية للوهابية من مدخل الإخوان المسلمين، فمثلت بذلك الانقلاب على مشروعية إمارة المؤمنين. إنها حصيلة الوعي الشقي فيما يبدو، لأزيد من ثلاثة عقود من عمل المجلس العلمي الأعلى !
أما الأستاذ أحمد التوفيق بتوأم الأستاذ محمد يسف فقد قاربناه في منتهى مقال: "سؤال المشروعية في تحالف الدولة والوهابية"، من المقترب الميتولوجي. لكن لإنزال السياسة الدينية من اللاهوت إلى الناسوت، لا بد من استحضار الأستاذ التوفيق بتوأم الأستاذ محمد ياسين المنصوري. ويبقى للاطمئنان على سلامة الأفق -أمام زهو الأستاذ التوفيق بتوأميه، وبالقبضة العسكرية/ الأصولية، التي تغنيه عن فضيلة الإنصات، وتغريه بمزيد الهروب إلى الأمام- أن ينضاف إلى هؤلاء الأفاضل بحكم المهام، السادة الأساتذة: عباس الجراري، أحمد عبادي،عبد اللطيف الحموشي، ومحمد حصاد. فالمشروعية الدينية للدولة من مدخل ثوابتها المذهبية بكل رهاناتها في التجديد والأمن والاستقرار والتعايش وبناء المؤسسات، تستحق مثل هذا الزخم في الرؤى، "ما لكم لا ترجون لله وقارا"؟
ربما تكون هذه الإشارة، كافية لحواس الدولة، لتتخلص من مظاهر الارتخاء فيها، لعلها تقدر الحاجيات الحقيقية للأمن الروحي للمغاربة، حق قدرها. وبذلك تستعيد نبض اليقظة التاريخية في أصلاب هذه الأمة. ما عدا ذلك، هناك ضعف حقيقي، من حولنا من كل جانب، يصل حد الهوان. فهل تفعل؟!