لأن المشهد السياسي المغربي يعيش الفراغ على مستوى إبراز القيم والأفكار والنظريات السياسية من جهة، ولأنه عار من المشاريع والبرامج والتيارات، فهو بئيس بؤس نخبه التي تفتقر إلى بوصلة توجه عبرها مشاريع تستنطق الواقع السياسي اليوم.
لقد تعطلت الأفكار السياسية لتترك الخانات الفارغة أمام الخطاب السياسي القاصر الذي لا يعلم مداه أو حدوده.
خطاب سياسي ينتجه الفاعل السياسي بدون رؤية فكرية أو إيديولوجية، وبدون وسائل إقناعية وآليات حجاجية. فموت الفكر هو موت للغة.
مختلف هذه الملامح والتجليات، بالإضافة إلى عوامل أخرى يتداخل فيها الفكري بالسياسي، والإعلامي بالإنتخابي، تؤثث أطروحة النقاش التي ننطلق منها اليوم.
أطروحة تحويل مسار النقاش العمومي إلى نقاش شعبوي بفعل عوامل متشابكة تتصدر فيها الثقافة السياسية والفكر السياسي موقع الريادة.
لعل المتابع لتجليات هذا التحول في مسار النقاش العمومي سيتتبعها في خطابات ساستنا وسياستنا الشعبوية، مثلما وقع مؤخرا في خطاب التسفيه والسفاهة التي تم تبادله بين الحكومة في شخص رئيسها، والمعارضة في شخص الاتحاد الاشتراكي مع إدريس لشكر.
وهي ممارسات وخطابات تتجسد واقعيا عبر سلوكيات تقدم انطباعات سلبية عن المشهد السياسي المغربي اليوم. كما أنها صادرة عن عينة من المفروض فيها تقديم نماذج مشرقة عن الفكر والرأي السياسيين مستحضرين قيمة القدوة السياسية بحسهم التربوي لترقية الذوق السياسي، لا تمييعه أو تبخيسه وتهريجه.
فالتمييع والتهريج السياسي هنا يرتدي لبوسا شعبوية عامية، بدل أن يرفع من مستويات النقاش العمومي، يعمل على رص لبنات الجدال الشعبوي العامي؛ جدال المقاهي الذي يتحول فيه العامي إلى محلل سياسي، لاستعراض العظمة والقذف والرمي بالغيب التي تبعد مفهوم التروي السياسي، وتكسر قواعد الاختلاف الفكري.
لقد أضحى متاحا لكل من هب ودب أن يمارس حقه في الكلام دون أدنى شروط المعرفة، بإبداء رأيه السياسي في كل ما يقع بشأننا العام، بصيغة الفضيحة، لا النصيحة، صيغة السب والشتم، لا صيغة العقل والنقد.
فالمشهد التكنولوجي اليوم ووسائل الاتصال هو مجال مفتوح للجدال الشعبوي الذي تحكمه الانفعالات والعواطف والمشاعر دون الأفكار والآراء والاقتناعات.
فكل يبدي رأيه في الكل، الكل يتحدث عن الكل دون مراعاة لمفهوم التخصص، أو الحقول التي ينتمي إليها.
فالداعية يتحدث عن السياسي والرياضي، والاقتصاد والمقاصة والمالية والميزانية دون أن يبلي البلاء الحسن في حقله المعرفي. فهو بهذا يريد أن يتطبع بطباع الموسوعية التي غابت منذ عصور، (موسوعية ابن رشد، موسوعية الفارابي والكندي والبيروني..).
فما دام أن الأمر لا يتعلق بالخطاب المعرفي والحقل الفكري الرصين، بل يرتبط بمجموع التحولات والمظاهر والأشكال التي يشهدها فكرنا السياسي المغربي، بدأ يؤسس عن غير وعي لمرحلة فكرية جديدة عنوانها" كلنا سياسيون" و"السياسة نحن"، وهو ما أوصلنا اليوم إلى الهوة السياسية.
إن أزمة وكارثة ممارساتنا السياسية في المغرب تظهر في الصراع بين الشخوص والأشخاص، لا بين البرامج والأفكار والخطابات مثلما هو قائم في الدول المتقدمة التي تقدم صورة مشرقة عن الفعل السياسي الناضج، المستحضر لشروط الأدب واللياقة والتربية السياسية الجادة.
هناك، حيث الصراع السياسي يتراكم بفعل تنامي الوعي بالثقافة السياسية، فينضج البناء بناء النظريات والتحليل والنقد.
فلا مجال للصراعات المجانية البروباغاندية التي تهيمن عليها الانفعالات والمزايدات، وحساسيات الانتصار للمناصر في الحزب في وقت تم فيها تغييب النخب التي تصنع ليحل محل صناعة الحدث.