بعد أن حولوا الفضاء السياسي إلى "بورديل" حقير: حكومة "التشرميل" و"المشرملين"

بعد أن حولوا الفضاء السياسي إلى "بورديل" حقير: حكومة "التشرميل" و"المشرملين"

حين طلع علينا، في سنة 2014 شباب مسلحون، بشعر مرسل أحيانا، أو بصلعات مدهوشة أحيانا أخرى، وبزي «مشمكر» مثير، كنا نعتقد أن الظاهرة التي سماها المغاربة بـ «التشرميل» هي تعبير عن إحدى صرعات شباب اختاروا أن يتمردوا على الذات والمجتمع بتبني هذا السلوك العنيف. وكنا نعتقد أن ذلك آيل للزوال بمجرد ما تصحو الأجهزة الأمنية من ارتخائها في الشوارع الآمنة. وذلك ما حصل فعلا نسبيا بعد أن استعاد الأمن سلامة الفضاء العمومي وحرره من ذلك النزوع العابر. لكن الذي لم ندركه في تلك اللحظات هو أن ذلك «التشرميل» كان تعبيرا سوسيولوجيا عن ظاهرة أخطر تمس كيان المجتمع برمته، وتمس بالخصوص نخبه السياسية التي صارت تنزل باللغة وبالسلوك والمواقف ما تنزله الشواقير والسيوف بالأجساد والعقول. وربما نحتاج فقط لبعض الوقت ليقدم لنا علماء الاجتماع والإجرام (بمعناه العام، المادي والرمزي) إفادات عميقة حول هذه الظاهرة التي ارتبط ظهورها الصارخ بما بعد دستور 2011 الذي اعتبره المراقبون نقلة نوعية في البناء الدستوري المغربي، وتطويرا للمكتسبات المتحققة، بما فيها من بنود أسست إقامة سبل التسامح، واحترام التنوع والاختلاف في السلوك والأفكار والنصوص التشريعية.

لكننا للأسف، وجدنا أن المشهد السياسي يسير ضد هذا التيار الدستوري بتعميق مسلسل «التشمكير» السياسي، لا من طرف الحكومة فقط، بل وتشترك المعارضة في هذا الانحدار والإسفاف، تماما كما لو أن التنافس المفروض أن يجري بين السلط (الأغلبية والمعارضة) على قاعدة البرامج والاختيارات، وعلى المعطيات والأرقام وعلى النقد والتوجيه، صار يتم في "بورديل" الألفاظ والمعاني وماخور المواقف. إنه «التشرميل السياسي» غير المسبوق في تاريخ الحكومات والمعارضات التي تعاقبت على المغاربة منذ الاستقلال إلى اليوم.

ولنعطي لحكمنا بعدا نسبيا نشير إلى  أن ما مضى من سلوك الفاعلين السياسيين كان دائما يتم في إطار احترام مشاعر المغاربة، وإن كنا من قبل نلاحظ استثناءات لا حكم لها، مثل حالة وزير شارد، أو نائب تالف كان يتعثر في كلماته ومواقفه. أما اليوم فالمصيبة قد عمت، دون أن تهون، حيث صار للتشرميل أكثر من وجه، وإليكم الدليل:

1- "تشرميل" اللغة:

اللغة ليست ناقلة لأفكار فقط كما يرى ذلك اللغويون وعلماء النفس والاتصال، لكنها صورة لهذه الأفكار، وللناطق بها. ولذلك فالمتحدثون اليوم، من الجهاز الحكومي أو من المعارضة، يقدمون صورة منحطة جدا عن أحزابهم، وأفكارهم وسلوكهم الشخصي لدرجة صار المغاربة يتساءلون معها حول ما إذا كان بعض هؤلاء قد قرأوا القرآن وسيرة الرسول الكريم وهل دخلوا المدارس والجامعات من قبل، أم أنهم تربوا داخل  "البارات الكريهة" و«البورديلات الخانزة» و«السيلونات العفنة» وحمامات النساء في الدروب الشعبية.. وخير مثال على ذلك ما ينطق به رئيس الحكومة والعديد من الوزراء، وأعضاء المعارضة من معجم يعبر عن حقول دلالية موغلة في التخلف و"التسلكَيط" والكلام البذيء الذي يدفع المرء إلى التقيؤ على هذه النخبة.

2ـ «تشرميل» المظهر:

إلى جانب انحطاط اللغة والخطاب، هناك الترجمة السلوكية التي يبدو معها هؤلاء الفاعلون كما لو كانوا قطاع طرق بوجوه وقسمات مرضية تغري علماء التحليل النفسي بالدراسة والاستنتاج المفضي إلى أننا إزاء حالات تعاني من الرهاب والانفصام، وغيرها من باقي الأمراض النفسية.

من يرى رئيس الحكومة وهو يتحدث في لقاء حزبي ينزل من المنصة في اتجاه أحد المواطنين مخاطبا إياه «هانا قدامك صرفقني»، ومن يراه في جلسة المساءلة الشهرية الأخيرة (المجهضَة)، سيجد أن الرجل يعطي الانطباع بأنه لم يأت إلى حكومة  لها حرمتها، وضمن ممارسة دستورية راقية، ولكنه قادم إلى حومة لاقتناء القرقوبي أو «المعجون» أو «الروج مدرح». وفي هذه الحالة ستكون أمام أحد الاحتماليين: إما أن عبد الإلاه بنكيران لا يفهم أنه بصدد ممارسة مسؤولة تتطلب حكمة رجال الدولة الذين يعدون ألف حساب لصورتهم أمام الله وأمام الرأي العام الوطني والدولي، أو أنه يتعمد «تشرميل» الملك والمواطنين، غير مكترث بحرمة الحكومة أو البرلمان، أو بمشاعر المواطنين، أو بصورة المغرب في الخارج. ولعل لمنظره وهو يحمل ذراعيه في هيئة "سبيرا"، في ختام الجلسة، أكثر من دلالة، لعل أولاها تطابق صورته مع صورة القدافي الذي كان يقترف نفس الحركة للإيهام بانتصار كاذب، في الوقت الذي كانت بلاده تتساقط ككثبان من رمل لأن اللغة والمظهر لا يصنعان الانتصار لحسن الحظ.

3ـ «تشرميل» المواقف:

يتعلق الأمر هنا بمواقف الحكومة «التشرميلية» التي تتعدى الكلمات والمظهر إلى المواقف والقرارات القائمة على الازدواجية التي صار يتداولها المغاربة على صفحاتهم الإلكترونية، أو في جلساتهم الخاصة، بسخرية وضحك أشبه بالبكاء. ومنها العدد الذي لا يحصى من التصريحات الرسمية، بدأها بنكيران الذي صرح بفساد صلاح الدين مزوار، ثم تحالفه معه لمجرد إنقاذ حكومته الثانية، وعدم الحسم في شخصيته ما بين رئيس الحزب ورئيس الحكومة. وهو بذلك يرسم «الخط التحريري» لمرؤوسيه في الجهاز التنفيذي الذين يسيرون على نهجه في تحويل الوزارة إلى «بيسري ديال الشكلاط»، أو «بيت النعاس» أو إلى «برتوش» حميمي لنسج العلاقات العاطفية... تضاف إلى ذلك المواقف المثيرة لوزير التعليم (في النسخة الأولى من الحكومة) الذي شتم التلاميذ والأساتذة على حد سواء، أو لوزير التعليم (في النسخة الثانية) الذي صرح بأنه لا يعرف اللغة العربية في حين يطوقه الدستور بحماية مكونات الهوية المغربية، وفي صدارة ذلك اللغة العربية باعتبارها لغة رسمية... إلى غيرها من المواقف التي هي غيض من فيض، لدرجة صار معها يحسون كما لو أنهم أمام "سيتكوم" يشيع الكوميديا السوداء، وكما لو أن جوهر السياسة صار تغذية النزوع الفرجوي الساقط. والحال أن تحديات كبرى توضع أمام المغرب، داخليا وخارجيا.

والنتيجة أن السياسة توجد حاليا في وضع «مشرمل» يعلم الله وحده مخاطره على مستقبل البلاد. مثلما توجد الديمقراطية في «الكوما». وهو، في تصورنا، عبث مقصود أوصلتنا إليها نخب سياسية غير مسؤولة عوض أن تفهم الديمقراطية كإحدى آليات التداول على السلطة، والخضوع للمحاسبة نراها

تعطلها، وتنقلب عليها. ولذلك فالحكومة بقيادة العدالة والتنمية تعي أن هذا «السيتكوم» يغطي عن الفشل، وبالتالي فسنسمع أعضاء التحالف الحكومي في الحملات الانتخابية يعلقون أسبابا هذا الفشل على كل الجهات: العدالة والتنمية تعلقها على «التماسيح العفاريت والدولة العميقة»، والأطراف الحكومية الأخرى ستعلقها على الحزب الأغلبي... ومن ثم سيشقون الطرق إلى ولاية تشريعية جديدة. ويبقى الشعب المغربي هو الخاسر الأكبر.

فقط لم ننتبه إلى أن هؤلاء المرضى والساقطون الذين يحكموننا كانوا أصلا في حاجة إلى حجر سياسي، وإلى خضوع إلى العلاج النفسي، مصحوبا بتأهيل اجتماعي وسياسي. وهذا ما لم يكن يتصوره أحد، ونحن ندخل التمرين الأول في عهده الدستور الجديد، يا حسرتي على بلدي!

 (تفاصيل أخرى حول هذا الموضوع تقرأونها في العدد الجديد من أسبوعية "الوطن الآن" تجدونها في جميع الأكشاك)

une-Coul-1