قد يكون من جذب سادات التصوف أن نقول: إن ندوة المجلس العلمي الأعلى حول "السلفية: تحقيق المفهوم وبيان المضمون" المنعقدة في الرباط في 2/4/2015، تمثل نقطة تحول كبرى على طريق الانقلاب على الثوابت المذهبية للبلاد. أكيد ستتباين التأويلات بخصوص حالة الجذب هاته، مثل تباينها حول ظرفية هذه الندوة، والأطراف المستفيدة منها، في معادلة التدافع الإيديولوجي في العهد الجديد، داخليا وخارجيا. لكن في كل الأحوال، وبدون استباق للنتائج، فنحن أمام حالة تبار مشرعة على كل الآفاق. وأعتقد أن البلاد في حاجة إلى حالة الجذب -ولا أقول الغضب لأنه ليس من الكمالات- لعلها بتلك النفحات تستقيم بعض الأمور. وتبقى في النهاية، العاقبة للتقوى.
لتأطير هذه الندوة بمنزعها الانقلابي في معادلة إحكام الوصاية على المشرب الحداثي لـ "ميجي" مغرب الغد، لابد من وضعها في سياق ثلاثة مرتكزات، لينجلي ما في تضاعيفها من مضمرات :
1- إنها تمثل امتدادا وظيفيا للدرس الرمضاني لوزير الأوقاف الأستاذ المدغري سنة 2000، تحت عنوان: "التصوف السلفي". وقد خصصت لهذا الدرس متابعة نقدية في "الاتحاد الاشتراكي" 8/12/2000، مما جاء فيها: "وهكذا يكون التصوف السلفي الذي بشرنا به السيد الوزير، ما هو إلا تصوف حنبلي. وإذا افترضنا حسن القصد فهو دعوة إلى الطائفة القادرية. أما النقطة الأخرى التي أود التنصيص عليها، فتتعلق بالسلفية، حيث إنها سلفيات وليست سلفية واحدة؛ فكما أن هناك سلفية أحمد بن حنبل التي وردت في الدرس، هناك سلفية الإمام مالك. والمغرب قد شهد صراعا بين سلفيته والسلفية الوهابية. وهذا التدقيق أساسي، حتى لا تختلط علينا شجرة الأنساب، فتتشابه علينا السلفيات والبرامج والأحزاب والمذاهب والقراءات". هذه العودة بهذه الندوة، إلى تنظير الأستاذ المدغري تسمح في رسالته ببعض الاستنتاجات تتجاوز الداخل المغربي، إلى إرضاء التشدد المذهبي في قراره المكين في الشرق العربي.
2- إنها تعبر بهذا التخليط في التعاطي مع مفهوم السلفية، عن سياسة التلبيس عن طبيعة التدافع الإيديولوجي في البلاد، بمحاولة محو تضاريس هذا التدافع. ولتوضيح الأمر لا بد من بعض الحفريات: ففي فسحة رمضان في "الاتحاد الاشتراكي"، صيف 2013، نشر الصديق الأستاذ يوسف احنانة ، ثلاثة نماذج لـ "علماء مغاربة في مواجهة الحركة الوهابية"، حيث خصص ثلاث حلقات لعبد الحي القادري، وحلقتين لعبد الحفيظ كنون، وحلقة واحدة للطاهر اللهيوي. قد يكون الأستاذ احنانة استحضر واقع "الحكومة الملتحية" في سياق مسعى محو الذاكرة الجمعية للأمة. وقد علقت على هذا التذكير بهذه النماذج في موقع "أنفاس بريس"، وبعده بـ "الأحداث المغربية" 18/2/2015، في مقال "المغرب بلد طائفي؟"، بالقول: "تشاء الصدف أن تكون أسماء هؤلاء السادة العلماء، تمثل الخريطة الصوفية، فالأول قادري والثاني تيجاني والثالث شاذلي مشيشي، بمعنى أن المكون الصوفي يتموضع في طليعة التصدي للمد الوهابي(..) وتشاء الصدف أن تكون إنتاجات الأولين منها تعود لعهد أب الأمة سيدي محمد بن يوسف، في حين يعود إنتاج الثالث إلى عهد المرحوم الحسن الثاني. ويمكن أن نضيف بالنسبة للعهد الجديد، أحمد الخليفي من خلال كتابه: "حقائق تاريخية عن سرية الحركة الوهابية"، وإن كان نقد الوهابية أصبح في هذا العهد من المحرمات في المغرب، على الأقل بالنسبة للقناة السادسة". وللتذكير فقد اعتبرت في هذا المقال أن المذهب الحنبلي يأتي في الرتبة الأولى والشافعي في الرتبة الثانية بإيديولوجيتهما الوهابية والإخوانية. إذن تأتي هذه الندوة لتمنح الوهابية كامل المشروعية باسم السلفية، ومن مدخل التكييف الإخواني للموضوع، لتجعلها في منأى من كل نقد، ولتجسد من جهة أخرى، مصالحة الوهابية والإخوان لحسابات الاصطفاف الداخلي، المناهض للقوى الديمقراطية، وحسابات القيادة الجديدة للنهج السلفي في الشرق العربي.
3- شاءت الصدف أن تكون هذه الندوة مسبوقة بمقالي: "من يملك الملك، بين سؤال التاريخ وسؤال الحاضر؟"، المنشور بموقع "أنفاس بريس"، ومتبوعة بنفس المقال وقد نشرته "الأحداث المغربية"، بعد ذلك. كما جاءت عقب بعض المقالات ذات الصلة بالسيادة المذهبية والمرجعية الناظمة، التي نشرتها في الآونة الأخيرة، فاندرجت مع الأسف في واقع الحال فيما نبهنا إليه من "توظيف وهابية سيدي محمد بن عبد الله، وولده المولى سليمان، لتكريس الوهابية كمذهب أول للبلاد في عهد محمد السادس"، بل وأكثر من هذا المساس بدلالة تحرير المولى سليمان ولاية العهد لانتقال العرش إلى ابن أخيه مولاي عبد الرحمن بن هشام، فـ "سيدي عبد الرحمن ينحدر إليه نسب وحكم سيدي محمد بن الحسن، مما يجعل مضامين البيعة الوثقى كتعبير للتعاقد الوطني المتجدد، تنهل من هذه الصيرورة التاريخية لنهج البناء الوطني المستقل". بمعنى أن هذه الندوة تندرج في مخططات الحفر تحت الجدار، أي تنهض بـ "دليل الخطاب "، على نقض البيعة الوثقى. وهذا من "لحن الخطاب" الأصولي في هذه الندوة.
هذا الوجه في الرسالة الداخلية للموضوع، سيزداد جلاء، من خلال دلالة الصورة التي احتفت بها بعض المواقع، وهي تؤرخ لتقبيل الأستاذ التوفيق لرأس السلفي الشيخ محمد زحل، بدون داع لذلك، خصوصا وأن جريان جلسة الندوة ورصيد "الشيخ"، لا يستدعيان هذه الهرولة/ الانبطاح. ربما عمق دعوته إلى تلاحم السلفية والعرش لمواجهة "الفكر اليساري الإلحادي المادي"، واعتزازه بالشبيبة الإسلامية، والكل يعلم مسؤوليتها في اغتيال الشهيد عمر بنجلون، ألهبت -وهي تجيب عن تساؤل مقالي: "أتستوعب إمارة المؤمنين الصف الوطني الديمقراطي؟"- سواكن الأحوال لدى الأستاذ التوفيق. أكيد أن رسالة الاصطفاف الجديد التي تنهل من تجربة سنوات الرصاص والمعمدة بالدم، قد عمدها الأستاذ التوفيق بتقبيل رأس صاحبها، فتشكلت أبعاد رسالة الداخل في هذه الندوة، بتكامل العقل الباطن بنقض أسس البيعة، والدعوة الصريحة للتحالف ضد القوى الديمقراطية، لأهداف عزل ميجي مغرب الغد عن عمقه الوطني الديمقراطي، للأخذ بمخنقه في النهاية.
سهولة استدراج الأستاذ التوفيق جعلت الشيخ زحل يمد رجليه، ويتم منحه مداخلة ثانية، فكان فارس الميدان، في تزييف تاريخ الحركة الوطنية، والشحن الإيديولوجي ضد اليسار. صحيح أنه دعا إلى التعاون مع "جلالة الملك المصلح سيدي محمد السادس.."، ودعا معه، لكنه غيب في هذه الدعوة وهذا الدعاء، الصفة الدينية للملك كأمير للمؤمنين، لتكريس نفس ترسيمة علاقة الوهابية بآل سعود. مشهد غني بالدلالات في باب رمزيات التدافع،أعاد بي الذاكرة -وقد انتصرت في هذا المشهد إرادة الخوارج على إرادة الدولة- إلى ثلاث نقط وردت الأولى في حواري بأسبوعية "النشرة" في يونيو 2000، عندما قلت: "المغرب يتعرض لعملية تشويه ممنهجة لتاريخه، بدعم من الدوائر النفطية والتنظيمات الأصولية العالمية، وحتى من بعض الدوائر الغربية"، والأخريتين في حواري بـ "الأحداث المغربية" في يوليوز 2002، لما قلت: أ- "هناك مخطط لجعل المغرب ملحقة مذهبية للشرق ومختبرا للصراعات الإيديولوجية للأطراف الخارجية". ب- "عندما تحتكر الأصولية مضمون إمارة المؤمنين، فإن خطاب التكفير يصبح السائد في الحياة العامة". فنحن أمام سيريان نفس الاستهداف لهذا البلد الأمين، إلا أنه في هذه المرة تتبناه الجهات الرسمية جهارا، بمبررات تعبر في العمق، عن مدى العجز عن الاضطلاع بمسؤولية حفظ بيضة المغرب.
لعل مسبر هذه المرتكزات، يشكل مفتاح الفهم لخلفيات هذه الندوة بمختلف رسائلها المشفرة للداخل، وللخارج في جناحه الشرقي. وتشاء الصدف أن يطير الأستاذ أحمد عبادي الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء على إثرها لأمريكا، وهو الذي تم تهميشه في هذه الندوة -على نحو ما قرأنا- بشكل مخل بكل أدبيات الذوق والأعراف، ليتحدث في "الدورة الثالثة للحوار الاستراتيجي بين المغرب والولايات المتحدة"، عن "أن الطابع الشامل لإستراتيجية المغرب في مجال مكافحة التطرف الديني، يستهدف منابع التطرف، عبر إنتاج أنزيمات فكرية قادرة على تحصين المجتمع ضد أجراس الموت". وهذه رسالة أخرى للخارج في جناحه الغربي، بشعرية تسامت عن الواقع. لكن هل بالفعل تندرج هذه الندوة ضمن هذه الأنزيمات؟ أم أنها تمثل ألياف مشاتل هذا التطرف؟ لكن رعيا لموسيقى هذه الشعرية نتساءل: هل تمثل هذه الندوة نوطات أجراس الموت؟ مجرد سؤال، لمجرد براءة الذمة ليس إلا !
ما يعرفه المتتبعون لدواخل الحقل الديني، أن "أنزيمات" شعرية الأستاذ أحمد عبادي، هي ما يجب أن يكون على الدرب المضيء في حب الوطن، ومن ثم لن تفلح في تفكيك واقع "ألياف" توأم الأستاذين أحمد التوفيق ومحمد يسف. لكن ما أعرفه من حقل الميتولوجيا، في مقابلة التوائم بالاضطرابات الطبيعية، لدى الشعوب القديمة، أن التوائم الذين يولدون بخروج أقدامهم أولا، مدعوون كل مرة للاعتراف بآثامهم والتوبة المتجددة، إن كتبت لهم الحياة ليتطهروا. استعارة جديرة باستعادة التاريخ، تاريخ البناء المستقل للبلاد، لا التاريخ المجرد !
وبالجملة فإن دلالة ندوة المجلس العلمي الأعلى حول السلفية بمختلف رسائلها الداخلية والخارجية، تكمن في محتواها الإيديولوجي والسياسي، وليس في محتواها المعرفي. ربما ستنجلي أكثر أبعاد هذه الدلالة، حين وقوفنا على، "بيان حقيقة السلفية بين المغرب والسعودية".