استكمالا للنقاش حول ندوة المجلس العلمي الأعلى بخصوص موضوع "السلفية بيان المفهوم وتحقيق المضمون " وانطلاقا من الخلاصة لتي خرجنا بها في مقالنا السابق المنشور في جريدة الأحداث المغربية وموقع" أنفاس بريس" الالكتروني بأن الندوة شكلت تطبيعا عقائديا وفكريا مع السلفية لوهابية التي تشكل الوعاء الإيديولوجي لما يسمي "بالإسلام الجهادي" في تجلياته الحركية الأصولية الإرهابية التي تمتح من الفكر الوهابي الذي قام بدوره في مرحلته التأسيسية على استدعاء المباني العقدية والفكرية لمدرسة ابن تيمية التي ترفض وتكفر جميع المذاهب الاسلامية على قاعدة قول ابن تيمية الشهيرة " الحق هو ما نقول والقول قولنا ومن يخالفنا يقتل ولا يستتاب " وهو الأساس الفكري والعقائدي الذي جعل أتباع السلفية الوهابية في كل بقاع الارض يمثلون تلاميذ نجباء لهذا الفكر المتطرف الالغائي الذي يعتبر الإرهاب نتيجة حتمية لمبانيه الفكرية والعقائدية التي لا تعترف بالاختلاف والحوار والتعدد الفكري و الفقهي، فهي لا تر في الاسلام سوى ما تقول وما تؤمن به وتحرم أي اختلاف مع تفسيرها للنصوص الدينية تحت طائلة القتل الذي يعتبر في رؤيتها للشريعة "جهادا في سبيل الله" المؤدي إلى الفوز "بجنة الفردوس". هذا النموذج المنغلق والعنفي والالغائي والمؤدي للفتنة والإرهاب يتعارض جذريا مع الاسلام المغربي المتسامح الوسطي المعتدل والمنفتح على الفكر الانساني و ثقافات شعوب العالم الذي ترعاه امارة المؤمنين في ثوابته العقائدية والفقهية والسلوكية الصوفية.
استمرار اذن لهذا النقاش الذي ساهمنا فيه والتزاما بالوعد الذي قطعناه على انفسنا في توضيح بعض المفاهيم التي نعتقد ان ندوة المجلس العلمي الاعلى عبر فتحها المجال للخطاب الاصولي السلفي لتمرير مغالطات والتباسات حول مفهوم السلفية، إن على المستوى التأصيل التاريخي الذي حاول أن يوهمنا بأن السلفية الوهابية هي استمرار للسلفية الوطنية أو على المستوى العقدي و الفكري عبر التدليس الذي تمارسه الحركة الاصولية في هذا الاطار لاختراق المجال والحقل الديني المغربي تكون- أي الندوة- قد قدمت خدمة جليلة للمشروع الاصولي سواء شعرت بذلك أم لم تشعر. من هذا المنطلق سنحاول هنا مقاربة مفهوم السلفية انطلاقا من المدخلين التاريخي والفكري عبر توضيح الفرز التاريخي للمفهوم وتحقيقا فكريا لمضمونه ومن جهة اخرى تسليط الضوء على المنهج التدليسي الذي تمارسه الحركة الاصولية من خلال المقاربات الجديدة الملتبسة التي بدأنا نواجهها في مجال العقيدة والفقه انتهاء الى ما تشكله الحركة الاصولية من خطر على المشروع الإصلاحي الحداثي المجتمعي التنويري الذي يقوده امير المؤمنين .
يمكن القول انطلاقا من المقدمة المنهجية -السالفة الذكر- ان معظم الأصوات التي تدعي اليوم الدفاع عن ( الإسلام المغربي) ليس لها من هذه ( المغربة) إلا الجلباب والطربوش في المناسبات الدينية ، بينما هي تنتمي لتيار مشرقي خليجي المنشأ ( التيار السلفي الوهابي ) ، ويحاول البعض إيهام المغاربة بأن سلفية الزعيم علال الفاسي ومحمد بلعربي العلوي هي ذاتها سلفية نجد ..في محاولة لتبيئة هذا التيار وتعميق اختراقه للنسيج الثقافي المغربي الصوفي الهوى والهوية والأشعري المعتقد .
إن الزعيم علال الفاسي لم يكن حنبليا في الفقه ولا من أهل الحديث في العقيدة ولم يكن يعتبر التصوف شركا وابتداعا في الدين ..إن سلفية علال الفاسي وبلعربي العلوي مرتبطة بسياق إقليمي محدد حيث انطلقت النهضة الفكرية الإصلاحية التي أرسى دعائمها السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده والتي كانت سلفية بالمعنى اللغوي أي الرجوع للتراث الإسلامي لا إلى أدبيات ابن تيمية وابن عبد الوهاب ..بينما سلفية التيار السلفي لا تنطلق من كتابات النقد الذاتي لعلال الفاسي ومن أدبيات الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي كان بلعربي العلوي و عبد العزيز بن الصديق رحمهما الله من راوده وفقهائه ..ويمكن لنا ا ن نكشف عن الفرق بن السلفية الوهابية والسلفية الوطنية من خلال مواقف كلّ منهما وآثارهما، نستطيع أن نتعرف عن ميزة السلفية الوطنية في النبوغ المغربي لعبد الله كنون أو في الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي لمحمد بن الحسن الحجوي الثعالبي أو في التراتيب الإدارية لعبد الحي الكتّاني أو الاستقصاء للناصري أو المعسول للمختار السوسي أو مقاصد الشريعة لعلال الفاسي...بينما السلفية الوهابية انطلقت من بيئة بدوية قحة ومن أجندة "إصلاحية" تقتصر على نبذ البدع بالمعنى الدّيني مما انتهى بالعالم الإسلامي إلى حروب تأويل جديدة وكارثية. فلقد جعلت منذ البداية دعوتها قائمة على قاعدة: العقيدة أولا. ثم كان التوافق الموضوعي التاريخي بين الدعوة والدولة الذي مكن كل منهما للآخر. أما السلفية الوطنية، فلقد كانت تتحرك وفق أجندة أشمل وأوسع. وهذا ما لاحظه مؤرخو الحركة الإصلاحية المغربية مثل الفقيه المنوني في مظاهر يقظة المغرب الحديث، حيث اعتبر السلفية بمعناها الوطني قد واكبت يقظة المغرب الحديث في زمان مبكّر. وكان الفقيه المنوني أيضا قد لفت إلى هذا التّميز ليس فقط بين مستويات ووجهات التفكير الإصلاحي عند هؤلاء، بل أكّد على وجود تمايز بين السلفية الوطنية والوهابية ، معتبرا وجود نوع من الاستقلال النّسبي بين سلفية المغرب الوطنية والسلفية المشرقية. ويمكننا القول أنّ هناك مجموعة من الفروق بين السلفيتين: مثلا كانت السلفية الوطنية تدعو في المغرب إلى الجهاد ضد الاستعمار والإصلاح الاجتماعي والتقت دعوتها مع دعوة الجامعة الإسلامية وتبنّت مبادئها وأفكارها. كما ناهضت المحميّين وقدّمت أراء متقدّمة في مجال إصلاح التعليم والّتطوير الاجتماعي والاقتصادي لقد أيّدت الدعوات العقلانية وساهمت في تحديث الدّولة المغربية. إنّها سلفية تشكّل فرعا لمشروع الجامعة الإسلامية في مصر والشّام أكثر من قربها من سلفية المشرق الوهابية.
إلا أنه رغم هذا لوضوح في الفرق بين السلفية الوطنية كحركة نهضوية إصلاحية ثقافية تأثرت برواد ما عرف بالنهضة العربية ( محمد عبده، الافغاني ،الكواكبي..) والسلفية الوهابية كمشروع أصولي عقدي اديولوجي ينزع نحو العنف والتطرف فان هذه الاخيرة مارست تدليسا دينيا وفكريا خطيرا واستراتيجيا على تدين المغاربة فقامت بالفصل بين مالك والمالكية كما فعلت مع الأشعري والأشعرية والأدهى من ذلك كله أن الحركة الأصولية السلفية مارست هذا التدليس باعتباره تدليسا "محمودا" في خدمة الدعوة. ومن ذلك قلّدوا ابن تيمية في الفصل والتّمييز بين أشعري الإبانة وأشعري آخر ذي توجّه كلابي. والغرض من هذه التّخريجة هو اعتبار الأشعري من أئمة السّلف. وبأنّ المذهب الأشعري الذي يمثّل مذهب غالبية السّنة هو مجرّد خطأ في التّقدير. فمنذ ابن تيمية وحتى آخر سلفي وهابي معاصر يعتبرون الأشاعرة المنتشرين اليوم في البلاد الإسلامية أتباعا للكلابية التي نسبت زورا للأشعري، بينما يعتبرون الأشعري الحقيقي الذي تراجع عن آرائه الاعتزالية وتبنى معتقد أهل الحديث هو على رأي السّلف. ولذا حينما يتحدّث السلفيون الوهابيون عن مالك أو الأشعري، فهم يتحدّثون عن مالك آخر وأشعري آخر لا علاقة لهما بالمالكية والأشعرية. وهذا نجده في موقف الجامي والمدخلي ونظراء لهم يتّهمون الأشاعرة بالضّلال ويبرؤون الأشعري من معتقدات الأشاعرة. فإذا كانت السلفية قد غدت سلفيات متطاحنة حول الموروث الحنبلي التيمي، فإنّهم لا إشكال في أن تضعنا أيضا أمام أشكال من الأشعرية وأشكال من المالكية.
لقد حدث هذا التدليس الممدوح في معتقد السلفية الوهابية وانطلى ذلك على كثير منهم. وسوف يكون الأمر أكثر إمعانا في التدليس حينما أصبحت الدّعوة تستهدف العوام. ولقد رأى المغاربة كيف كان في بداية انتشار المدّ السلفي الوهابي كيف كان يتجرّأ رعاة الغنم على العلماء والمتخصّصين. وكان شيوخ الوهابية يشجعونهم على ذلك، ويحرّضونهم ضد العلماء بوصفهم علماء بدعة و ضلال.ففي هذا الإطار بدأنا نواجه مقاربات جديدة تقدّم موقف ابن تيمية من التّصوّف إلى درجة اعتباره من رجالات التّصوّف. فإذا بدأنا نجد سلفية تؤمن بالتّصوف وتمجّد في الأشعري ومالك تماما كما تمجد اليوم في الديمقراطية والربيع العربي، فإنّنا ندرك أسباب تمثّلها من قبل شرائح واسعة. يكفي دليلا على ذلك أنّك تجد في المغرب صوفية متأثّرين بفكر ابن تيمية بل لقد استطاعت السلفية أن تمتد أبعد من ذلك لتؤثّر في مثقفين ومفكرين كثر تبنّوا مبادئها وقدّموا مقاربات من شأنها إضفاء شكل من العقلانية الشكلية على آراء وأفكار سلفية. ويتجلّى هذا التأثير حتى في مواقف ووجهات نظر المثقفين السياسية التي باتت تلتقي بشكل من الأشكال مع مواقف السلفية الوهّابية..( يمكن الرجوع بهذا الخصوص الى بحث كنا نشرناه بجريدة الاحداث المغربية بتاريخ 11 12 13/ 2013 بعنوان التدليس الدينى والسياسي في المشروع الأصولي).
انطلاقا من هذا التحليل وهذه القراءة التي توخينا منها تعميق النقاش اكثر حول المشروع الاصلاحي للحقل الديني المغربي الذي طرحه صاحب الجلالة سنة 2004 بعد فاجعة 16 ماي الإرهابية تزامنا مع ندوة المجلس العلمي الاعلى حول مفهوم السلفية ولكن للأسف الشديد فان هذه الندوة لم تخدم الافق الاصلاحي الذي بدأه جلالته في الاصلاح الديني انسجاما مع متطلبات المشروع الحداثي الديمقراطي المجتمعي منذ ذلك الوقت والذي اكد عليه في خطاب العرش سنة 2007 الذي دعى فيه صراحة الى نهضة فكرية تنويرية ، ينخرط فيها علماء ومثقفو المغرب في نوع من الاستنفار العقلي والطوارئ الاجتهادية لإنقاذ البلاد والعباد من مخاطر الجهل والتعصب والتطرف حيث جاء في الخطاب الملكي ما نصّه :" ..الإبداع الثقافي والفكري، كفاعل قوي، في محاربة التطرف والظلاميين. مؤكدين ضرورة نهوض العلماء، والمثقفين وهيآتهم، بمسؤولياتهم في التوجيه والتنوير. وإذا كان من طبيعة الفكر أن يمر بفترات مد وجزر، فإنه من غير المقبول جعل أزمة الفكر تترك المجال فارغا للترويج لفكر الأزمة. فبلادنا في أمس الحاجة، لبعث صحوة دينية متنورة، ونهضة فكرية عصرية".
إننا نعتقد أن تشكيل حركة فكرية معاصرة اليوم، بات المدخل لصياغة وعي تنويري ومقدمة لبناء تجربة تنموية رائدة.
إننا نقف اليوم أمام مرحلة تاريخية ، تحتاج ممارسة الكثير من الحزم في ضبط الحقل الديني الرسمي ومنع المتسللين إليه والمشوشين عليه من خارجه ، كما أننا بحاجة ماسة إلى منع المشاريع الدينية الحزبية والاديولوجية التي تندرج في إطار المجتمع المدني من التداول في القضايا الدينية وتركها للجهة المختصة وهي ( المجلس العلمي الأعلى للإفتاء برئاسة الملك أمير المؤمنين) ، وإلا فإننا سنبقي الحقل الديني تمارس فيه جمعيات دعوية دور المؤسسة الدينية الرسمية وتجمع جماعة دينية الدين والسياسة منافسة بذلك موقع إمارة المؤمنين الذي اعتبر فيه الملك نفسه الجهة الوحيدة المخولة بالجمع بين المجالين .
أخيرا ، يمكن القول أن الإسلام المغربي الذي أرست دعائمه الدولة المغربية منذ اكثر من 12 قرن وجمعت من خلاله بين العرب والأمازيغ ، سيتحول إلى خطاب نظري لا يمت للواقع بصلة بالنظر إلى زحف تيارات الإسلام الأصولي ذات النزعة الاديولوجية المتطرفة على الحقل الديني المغربي بذريعة العمل الجمعوي أو المشاركة في هياكل المؤسسة الدينية الرسمية ..فالإسلام المغربي كهوية دينية حضارية تمثله امارة المؤمنين في اطار عقد البيعة بين المؤسسة الملكية والأمة المغربية أمامه تحديات خطيرة وصراع إرادات ستحدد مساره على نحو تكون فيه الدولة والمجتمع في المغرب امام سؤال الوجود اما تكون او لا تكون، نقول قولنا هذا وأملنا كبير في مقام امير المؤمنين والمشروع الاصلاحي الذي يقوده ليرجع الامور الى نصابها بعون من الله.