لا تشكل اللغة المنطوقة المتمفصلة عائقا أمام تمرير الخطاب، فللسينما قواعدها وتقنياتها التي توصل عبرها ما يرغب فيه صناعها من رسائل، ولا داعي في هذا الباب إلى التذكير بأن السينما بدأت صامتة.
عبرت السينما في بدايات انطلاقها دونما حاجة إلى الحوار، وتفاعل معها الناس بكل أحاسيسهم معتمدين على توالي الصور وتنظيم المشاهد واللقطات عبر آلية المونتاج التي تضبط إيقاع الأحداث زمانيا، وترتب الفضاءات والأمكنة، وتُنَضِّدُ مجالات الصورة وحركات الممثلين وفقا لتصورات المخرجين الذين ينطلقون في عملهم من السيناريو كوثيقة سردية ودرامية وتخييلية وحكائية.
لا يعني ذلك انفصال السينما، أو ما يسمى “اللغة السينمائية”، كليا عن اللغة المنطوقة والمكتوبة، فقد كنا نشاهد في الأفلام الصامتة تحرك شفاه الممثلين للدلالة على النطق، واللجوء إلى الكتابة لشرح أو توضيح ما عجزت الصورة عن تبليغه.
وإذا ما أردنا التوضيح فإن وظيفة اللغة، فلسفيا، تكمن في التعبير عن الفكر داخليا وخارجيا وهي كل نسق من العلامات يُسهم في تمكيننا من التواصل، وبالتالي، فالسينما تتوفر على نسق معقد من العلامات والرموز حيث يتداخل فيه التقني والفني وما سواه.
يظهر، إذن، أن التداخلات حاصلة، والفصل فيه إجرائي وتقني ولا يمنع الاستعصاء، فالحديث عن لغة الصورة والسينما دلالة على حمولاتها الدلالية والإيحائية التي تشترك فيها مع كل الخطابات الرمزية سواء تعلق الأمر بالفن أم الأسطورة أم اللغة ذاتها.
ومع ذلك فالمسألة لا تقف عند هذا الحد النظري، بل تتعداه إلى استعمال اللغة المنطوقة -لغة الحوار- داخل السينما حيث تهيمن لغة على أخرى، وتصبح اللغة مجالا للصراع والسلطة والهيمنة والأيديولوجيا وإعادة إنتاج منظومة جمالية وقيمية خاصة باللغة المهيمنة.
لا يخلو الحقل السينمائي المغربي من صراع لغوي وهو ليس بمنأى عن صدام اللغات والنّخب والهيمنة اللغوية. لقد أقرّ الدستور المغربي الجديد في تصديره أن الهوية المغربية تنبني على صيانة تلاحم وتنوعِ مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية- الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الأفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية.
وذلك ما يوضح كثافة المجال اللغوي بالبلاد ويبرز مكوناته الفسيفسائية التي صارت عبارة عن مطالب مرتبطة بالحق في رؤية الذات، وفي الصورة.. فقد تعالت بعض الأصوات للمطالبة بدعم الأفلام الأمازيغية والحسانية أما اللغة الدارجة (حتى لا نقول اللغة العربية الفصحى)، فهي التي تنال نصيب الأسد من دعم الأفلام متبوعة باللغة الفرنسية.
لغة السيناريو
لا يقف المشكل عند دعم الإنتاج فقط، وإنما يتشعب الأمر إلى حدّ الإحساس بالإقصاء والتهميش، لاسيما وأن الدولة تمول الأفلام، ولا يرى الناس لغاتهم وأنماط عيشهم على الشاشة الكبيرة، كما أن الفرنسية ظلت إلى زمن قريب اللغة الأولى لكتابة السيناريوهات، فغالبا ما نقرأ بعض الأعمال المتميزة لغة وحوارا ونرى العكس أثناء العروض مما يدعو إلى الدهشة والصدمة في آن.
وتلك مشكلة مرتبطة بالفشل في ترجمة المضامين إلى صور، وعدم الفلاح في نقل الحوارات التي كانت مكتوبة في الأصل بالفرنسية من طابعها الأدبي والشاعري إلى ما يقابلها في الدارجة المغربية، وذلك لا يعني محدودية هذه الأخيرة.
ترجع هيمنة اللغة الفرنسية على السينما المغربية إلى عوامل متعددة أهمها استمرار التبعية اللغوية والثقافية للمستعر، إذ تعتبر اللغة الفرنسية ثاني لغة من حيث عدد ساعات التدريس، وهي تنافس اللغة العربية والإنكليزية أو الأسبانية في المناطق التي كانت تحتلها أسبانيا وخصوصا شمال المغرب.
إضافة إلى أن جل صناع السينما بالمغرب من تقنيين ومخرجين قد درسوا السينما بفرنسا أو ببعض الدول الأوروبية (بلجيكا، روسيا، بولندا..)، لكنهم لم يتمكنوا من التواصل باللغات التي درسوا بها، نظرا لعدم رواجها فاستعملوا الفرنسية كلغة للكتابة والتواصل مع الصحافة وجمهور المهرجانات والتظاهرات السينمائية، وأهمها المهرجان الدولي للفيلم بمراكش الذي يمكن أن يظهر من واجهة مطبوعاته وكاتالوغاته أن اللغة العربية تأتي الأولى فيما هو رسمي، كالإشارة إلى الرعاية الملكية للمهرجان، وما عدا ذلك فالفرنسية تتسيّد في الوسط بحروف ضخمة لتحتل المرتبة الأولى.
وهي اللغة التي تتم العناية بها على مستوى أسلوب الكتابة والخطاب، بل إن المهرجان مجال حيوي للفرنسية والفرنسيين -ومن يسير في ركبهم من المغاربة- إشرافا وتدبيرا وحظوة، فالصحافة الفرنسية لها الأسبقية وهي الأولى.
نشير إلى مسألة أخرى تتعلق بالتكوين، فغالبية مدارس التكوين السمعي البصري تدرس برامجها كليا أو جزئيا باللغة الفرنسية، مما يجعلنا أمام مهنيين لا يتحدثون أو يكتبون إلاّ بها، رغم أن البعض لا يجيدها وغير مطلع على آدابها وفلسفتها وفنها.
وها نحن أمام هجنة ما بعدها هجنة، واضمحلال ما بعده اضمحلال: أفلام هزيلة على مستوى التخييل والإبداع، فلا يمكن للمتشبع بالثقافة الفرنسية التي رفدت الثقافة الكونية بمنجزات أدبية وفنية ضخمة أن ينتج ما نراه اليوم على شاشاتنا.
تستعمل كل الأفلام المغربية اللغة الفرنسية للعنونة والترجمة بدعوى توهّم أصحابها اكتساح المهرجانات الفرنسية، وعلى رأسها مهرجان “كان” ومهرجان مراكش.
والحال أن مثل هذه المهرجانات تتحكم فيها لوبيات، وتخدم سياسات وأيديولوجيات معينة، ولا تنتصر للجانب الجمالي إلاّ حينما يتساوق وغاياتها المتمثلة في إدامة التبعية وترويج منتوجاتها الاقتصادية والثقافية. والدليل تكشفه نوعية الأفلام المغربية والمغاربية المشاركة في مثل هذه التظاهرات.
ازدواجية اللغة
لقد استبطن بعض الساهرين على تدبير وصناعة السينما بالمغرب، بطريقة واعية أو غير واعية، ازدواجية اعتماد اللغة في أفلامهم أو المنشورات المرتبطة بها، كما أن التظاهرات السينمائية التي لا تسير على هذا المنوال نادرة.
ومن ثمة يتغلغل اللوبي الفرنسي وأتباعه في دواليب السينما المغربية بشكل سرطاني، ويدافع عن مصالحه وينميها بقوة إلى درجة صار يقف مناصرا لها من داخل المؤسسات ضد أي تغيير يهدف إلى إصلاح اللغة، مدركا أن ذلك سيساهم دون شك في الرقي بالفن وتنمية الوجدان والتعليم (التقسيم اللغوي مهدّد للاجتماع). فهو متيقن من أن السينما يمكنها أن تبلور رؤى وتصورات ترقى بالفرد والجماعة، من خلال الاهتمام بالعنصر اللغوي لذلك يحرص على نخبوية الخطاب وتمييع الحوار..
والخلاصة، ها نحن أمام اختراق لغوي وثقافي ووجداني تعكسه بجلاء الفيلموغرافيا المغربية، ويسهم بطريقة أو بأخرى في ضعف اللغة العربية الفصحى، وعدم تملك جل المتعلمين لناصية اللغة الفرنسية أو اللغات الأجنبية الأخرى بعد سنين من التحصيل، فضلا عن تكريس سيطرة اللغات العامية والدارجة واللهجات المحلية على الحياة العامة والخاصة.
وهو الأمر الذي أدّى إلى تدمير التعليم والفن، وتمهيد الطريق لصنف من الناس يحتقر اللغة العربية ويهزأ من المتكلمين بها، وآخر يسخر ممن يتقن اللغات الأجنبية، وآخر يتعصب للهجات. وفي خضم ذلك الصراع المصطنع تنتعش الأمية، ويتقوى اللوبي الفرنسي على كافة المستويات ومنها السينما كفن جماهيري.