كنت التقيته من قبل، قرب محطة القطار "الدار البيضاء المسافرين"، وحين تقدم مني والمطر يهطل خفيفا في ذلك المساء القارس بالرباط، كانت ملامحه قد تغيرت قليلا. صار أكثر نحافة، لكن ثيابه الصوفية أكثر نظافة، مقارنة مع لباسه الخفيف الذي التقيته به منذ شهور بالدار البيضاء. الشيء الوحيد الذي لم يتغير فيه: طريقته المؤدبة في طلب المساعدة بالدارجة المغربية. قلت له، بالإنجليزية: "كيف حالك فابيان؟". تراجع قليلا إلى الوراء، وأنهى انحناءة صغيرة لكتفيه، وفي عينيه برز بريق تفاجئ وشك وحيرة. أدركت أنه لم يتذكرني، فلست سوى واحدا من المئات الذين يطلب منهم المساعدة قرب محطات القطار يوميا.
ذكرته بأول لقاء لي به بالدار البيضاء، وكيف سألته، بعد أن كلمني بفرنسية مكسرة، عن موطنه، فكلمته بالإنجليزية، حين علمت أنه مهاجر سري من نيجيريا. فابتسم ابتسامة اطمئنان وقال لي: "لا أتذكرك". أعدت عليه بعض نقاشنا، وكيف استغربت أنه مهاجر من نيجيريا، البلد الغني بالبترول. فتذكرني قائلا: "آه أنت الصحفي". فكان ذلك بداية لحديث طويل عن قصة تغريبته في بلاد المغرب الأقصى.
"فابيان النيجيري"، واحد من عشرات من الشبان والشابات الأفارقة، القادمين في هجرات سرية، عبر الصحراء الكبرى، الذين تجدهم في كل مكان بالمدن المغربية (أمام المساجد، أمام محطات القطارات، أمام محطات الحافلات، في ملتقيات الطرق الكبرى، في الأسواق العمومية الشعبية). شباب وشابات، جد مؤدبين، يطلبون المساعدة بصوت خفيض، بكلمات مغربية توظف ذات الموروث الديني الذي يوظفه نظراؤهم من المغاربة. الفرق هو أن السعاة المغاربة، كثيرا ما يكونون عنيفين في الخطاب وفي اللسان وفي نظرة العين، بينما هم مختلفون. بل، إن الكثير من النساء ضمنهم، تحملن على ظهورهن صغارهن، ممن ولدوا في طريق الهجرة الطويل الذي يقودهم نحو حلم الإلدورادو الأوروبي.
كنت أسألهم دوما عن ديانتهم، فأجد أن أغلبهم مسيحيين، وحين أسألهم، لم يستعملون خطابا دينيا للمسلمين في طلباتهم، يبتسمون. عدا "آما" القادمة من غينيا، التي أطلقت في وجهي جوابا مفحما، حين قالت لي: "إن الله لا يهتم بلساننا، بل بما في قلبنا". سألتها معنى اسمها، فقالت: إن معناه "الماء". قلت لها، هذا قريب من المعنى العربي. فردت علي بجواب آخر، أكثر إفحاما: "بل هو أقرب للطوارقية. لقد فهمت مرة من امرأة أمازيغية مغربية بالصويرة، أن الأمازيغ يسمونه "آمان". نحن ضيعنا النون فقط".
"آما"، التي التقيتها، في سوق شعبية للخضر والفواكه والسمك معروف بالدار البيضاء (سوق جميعة)، في الثلاثين من عمرها. نحيلة، وفي عينيها ميل لاصفرار قد يكون سببه قلة النوم. حكت لي أنها درست حتى المستوى الإعدادي ببلادها، وأنها جاءت مشيا على الأقدام، عبر السنغال ثم موريتانيا، ووصلت أكثر من مرة إلى غابة بليونش قرب سبتة طمعا في العبور إلى ما تسميه "هناك". لكنها فشلت في ذلك أكثر من مرة، فقررت العودة إلى الدار البيضاء. حين تسألها: ولم الدار البيضاء؟. تجيب: لأنها كبيرة، ولا يلتفت إليك أهلها كأجنبي. في المدن الصغرى، تحس أكثر أنك أجنبي، أما في الدار البيضاء، فلا أحد يهتم بك.
هل وضعيتها كامرأة، تجعلها عرضة للعنف الرمزي والمادي، في بلاد غربة؟ هي تجزم، أنها أقل حالا من البنات المغربيات. فالتحرش بالنسبة لها ببنات البلد أكبر بكثير من التحرش بها. مؤكدة، أنها ربما بسبب عنفها اللفظي واستعدادها للدفاع عن نفسها، يجعل الكثيرين لا يتجرؤون على التحرش بها. التحرش الأكبر جاءها من رفاق طريق هجرتها. وحين تسألها هل تمارس الدعارة، لا تخفي غضبها، مؤكدة أن من تمارسن ذلك، أفضل حالا بكثير منها. بل إنها دلتني على شبكة كبيرة لمهاجرات إفريقيات بالدار البيضاء، تمارسن الدعارة بشروط احترافية عالية وأنهن مطلوبات ومحميات.
حين تنام المدينة، إلى أين يتجه أولئك المهاجرون من إفريقيا جنوب الصحراء؟ يؤكد "فابيان" أنه كان لفترة ينام في مقبرة الشهداء بالدار البيضاء، لأنها الأكثر أمانا في الليل. وبها مقابر عائلية مسورة، يختار منها التي تظللها أشجار كثيفة، في الصيف. أما في فصل الشتاء البارد، فإنه يشترك مع مهاجرين آخرين في كراء بيت صفيحي بأحد الأحياء الفقيرة بتمارة جنوب الرباط. ففهمت منه، أنه في فصل الخريف والشتاء يكون بالرباط، وفي فصل الربيع والصيف يكون بالدار البيضاء. وأن الأمر دام حتى الآن 4 سنوات، بعد أن يأس من العبور إلى أوروبا سواء عبر مليلية أو سبتة، المدينتان التي تحتلها إسبانيا بشمال المغرب.
"آما" تسكن في غرفة مع ثلاث مهاجرات مثلها في الحي الشعبي بوشنتوف بدرب السلطان بالدار البيضاء. مؤكدة أنهن أصبحن جزءا من النسيج المجتمعي هناك، وهي لا تنسى أبدا يوم تم إشراكهن في عيد الأضحى من قبل الجيران، وكيف أنه حتى الشبان العنيفون قدموا لهن المساعدة. وهي عكس "فابيان" ترى أن ساكنة الأحياء الشعبية يعيشون في تواؤم أكبر في ما بينهم. هم عنيفون نعم، لكنهم يحسنون إلى بعضهم البعض غالبا، وأنهن أصبحن جزء من فضاء تلك الأحياء.
هل طلبوا بطائق الإقامة أو بطائق اللجوء، بعد القانون الجديد الصادر في المغرب منذ سنتين؟ يجمعان معا، أنهما قدما طلبات وتم استدعاؤهم وأجري معهما بحث إداري، وأنهما ينتظران. يؤكد "فابيان"ّ أن الأولوية تعطى للعاملين في قطاعات إنتاجية منظمة، وليس مثل حالته. وحين تسأله، هل فشل في إيجاد شغل، وهل سوق الشغل ممنوعة عنه، يؤكد أنه اشتغل مرة في مقاولة بناء، لكنها متعبة وأجرها قليل، فقرر العودة إلى طلب المساعدة أمام محطات القطار لأنها تسمح له بجمع ضعف أجره السابق.
كيف يرون مستقبلهم كمهاجرين؟ تؤكد "آما" أنها بدأت تصبح مغربية في الواقع، وأن حلم أوروبا بدأ يخفت عندها. فيما "فابيان" يعتبر أن مقامه بالمغرب مؤقت، وأن حلم العبور إلى أوروبا لا يزال هدفا لديه. هل سيعودان إلى بلديهما؟. هنا ثمة إجماع، أن غالبية المهاجرين الأفارقة جنوب الصحراء، حين خرجوا وركبوا المجهول، فإن قرار العودة عندهم غير وارد. "آما" تقول: "نعم، حقا، بي شوق لأهلي، الذين أكلمهم كل شهرين، لكن لا أفكر أبدا بالرجوع اليوم". هل تعنفهم الشرطة المغربية؟ هنا أجمعا معا، أن ما يطالهم من سباب وعنف هو نفسه الذي يطال أشباههم من المغاربة. بمعنى ما، هم في الفقر مغربيا مرتاحون، لأن وضعهم مثل وضع الفقراء من أبناء البلد. وعلى هذا المستوى لربما، تنتفي غربتهم.