هذه سلسلة من الكتابات التاريخية بصيغة المؤنث لمغربيات صنعن التاريخ، وبصمن مشوارهن من خلال عملية البحث والتنقيب وقراءة الوثائق التاريخية عبر أغلب مجالات الجغرافيا، وإعادة تشكيلها بقلم الأستاذ الباحث مصطفى حمزة، الذي أغنى الخزانة المغربية بإصداراته المهمة، والتي تناول فيها مسار شخصيات كان لها الحضور القوي على مستوى التاريخ الجهوي والوطني.
ولتقريب القراء من هذا النبش والبحث المضني، اختارت "أنفاس بريس" عينة من النساء المغربيات (25 شخصية نسائية) اللواتي سطرن ملاحم وبطولات وتبوؤهن لمراكز القرار والتأثير فيها فقهيا وثقافيا واجتماعيا وسياسيا وعسكريا.
- الحرة حواء اللمثونية.. جوهرة مجالس الأدباء والشعراء
كانت الحرة حواء، زوجة سير بن أبي بكر، أحد أشهر قواد المرابطين، "أديبة شاعرة جليلة ماهرة..."، يقول ابن عذاري المراكشي.. وزادها مكانة ما كان لها من نباهة وفطنة، حتى غذت من "شهيرات نساء عصرها"، حسب مؤلف كتاب "معطيات الحضارة المغربية".
لم تعش حواء بنت تاشفين، حياتها رهينة نعم وبذخ قصر حاكم اشبيلية بعد بني عباد، سير بن أبي بكر، ولا حبيسة قصور المرابطين بحضرة مراكش، بل كانت دائمة الحضور لمجالس الأدباء والشعراء. فتكوين حواء اللمثونية، ونهلها من معين ثقافة مجتمعين متنوعتين (الأندلس والمغرب)، جعلا منها منارا فكريا يشع أدبا وشعرا.
لم يكن يحضر المجالس الفكرية، التي كانت تعقدها الحرة حواء، إلا خيرة أدباء وشعراء ومفكري عصرها مثل: ابن القصيرة وابن المرخي، حسب صاحب "بيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب". كانت المجالس الفكرية التي تعقدها بنت تاشفين، مجالس متعة يرصع عقودها ما تجود به قرائح الشعراء من قصائد تثلج الأفئدة، وما يجود به الأدباء من در لألاء ينير الألباب.
وتبقى نباهة وفطنة حواء اللمثونية، المنار الوهاج لهذه المجالس، وسراجها المضيء، بما تلقيه الأديبة والشاعرة حواء من در منظوم ومنثور، كما يستشف من أحد المجالس التي كانت تعقدها..
"فلما غص المجلس أقبلت الحرة تريدهم وهم يتحاثون ويأخذون في الشعر، وكان ابن المرخي قد قال صدر بيت وهو "أنا للبدر أخ" ولم يجزه أحد منهم، إذ أقبلت الحرة فسلمت عليهم وبادرها ابن المرخي وقال لها: "حياك الله يا قمري ويا زهري"، فقالت: "وصفتني والله بآفل وذابل"، ففرح بفطنتها، فقالت له: "فيما كنتم"، قال لها: "كنا قد قلنا صدر بيت ولم يقدر أحد على عجزه"، فقالت: "انشدنيه"، فقال: "أنا للبدر أخ"، فقالت على البديهة: "على ذا سنخ"، فتعجب الحاضرون من براعتها، يقول ابن أبي زرع.
ومن هنا كانت نباهة وفطنة حواء بنت تاشفين، وزوجة أشهر قادة المرابطين بالأندلس (سير بن أبي بكر) مثار إعجاب واهتمام معاصريها من الشعراء والمؤرخين، ومن تلاهم.. فقد مدحها الأعمى التطيلي الشاعر الوشاح بعدة قصائد.. وترجم لها القاضي ابن عبد المالك في الذيل والتكملة وغيره من المؤرخين القدامى...