عبد الرحمن العمراني: ملاحظات أولية حول التوظيف السياسوي لمفهوم "الدولة العميقة"

عبد الرحمن العمراني: ملاحظات أولية حول التوظيف السياسوي لمفهوم "الدولة العميقة"

منذ توليه مسؤولية التدبير الحكومي إثر الانتخابات التشريعية لسنة 2011، وحزب العدالة والتنمية يردد، بموازاة سلوكه السياسي، خطابا جديدا من أجل التغطية على مواقف العجز والتردد التي تطبع عمل الأغلبية الحكومية. في هذا السياق يتحدث رئيس الحكومة دائما عن «الدولة العميقة»، وادعاء مسؤوليتها في إفشال برنامجه الحكومي، وعملها على ما يعتبره العدالة والتنمية سعيا شرسا من أجل مواصلة التحكم الفعلي في دواليب الدولة والمجتمع. الأمر الذي يطرح السؤال الحقيقي عن خلفيات الإصرار على تبني هذا الخطاب في سياق تجاذبات العمل السياسي، وعن طبيعة مرجعياته؟ وما هي "الدولة العميقة" التي تسعى فعليا إلى ابتلاع الأمة المغربية؟

أسبوعية "الوطن الآن" في عددها الموجود حاليا في الأكشاك، استقت آراء فعاليات فكرية وسياسية حول هذا الموضوع، ننشر في ما يلي وجهة نظر الأستاذ الجامعي عبد الرحمن العمراني.

(هل «الدولة العميقة» شيء غامض أو أطباق طائرة تحلق في السماء؟ هذا السؤال يجيب عنه الأستاذ عبد الرحمان العمراني باستحضار نماذج من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا التي تتحدث فيه الطبقة السياسية الناضجة هناك عن الأمور بأسمائها الحقيقية وليس بالشكل السياسوي المستعمل عندنا بالمغرب من طرف الحزب الحاكم الطبقات السياسية العادية، الممتلكة لناصية ثقافة ديموقراطية عادية، والمتوفرة على برامج إصلاح واضحة، مستقاة من مانفستوات انتخابية منسجمة وواضحة، حينما تصل إلى مواقع تسيير الشأن العام في مستوياته الحكومية، لا تستغرق وقتها وتفكيرها ولا تستنزف جهدها في التساؤل حول ما إذا كانت هناك دولة عميقة تقاسمها أو تزاحمها القرار والتوجيه، وهي لا تتيه بحثا عن أماكن تواجد عناصر أو بنيات هذه الدولة العميقة، كمن يبحث عن خيط قماش اسود رقيق في غرفة مظلمة - المحرر).

"إن مثل هذه الطبقات السياسية، الديمقراطية الطبع والتكوين، التي يعكس ظاهر خطابها وممارساتها باطن نواياها تنصرف في العادة، بإرادة وتصميم عند الوصول إلى مواقع التسيير إلى معالجة مشاكل المجتمع بسياسات عمومية من تخطيط أطرها وأولويات محددة ورزمانات زمنية تلائم تلك الأولويات وآليات ومؤسسات تواصل موحدة في أدائها توضح للناس ما يتم إنجازه على الأرض، مؤسسات تواصل لا تتوزع فيها الأدوار بين فرقاء الصف الواحد من الحزب الحاكم ولا تنقلب في سياقها المواقع إلى هذه الدرجة السخيفة التي يصبح فيها من هم في موقع التسيير ومن موقع الحزب الأغلبي حتى، معارضون شرسون مرات متعددة في اليوم الواحد، كما يحدث عندنا بما يزيد في الخلط والتعويم ويزيد في منسوب اللامعقول في المشهد السياسي.

الطبقات السياسية العادية، الديمقراطية التوجه والهوية، كيفما كان لونها الأيديولوجي تدرك كامل الإدراك أن السياسة هي بالتعريف صراع مرجعيات وبرامج ومواقف متباينة، وأن هذا الصراع يتضمن حتما، في خلفيته التكوينية، صراعا في المصالح المتضاربة (صراع المواقع الاقتصادية والمالية والاجتماعية وما يترتب عنها).. صراع يختلف من حيث الحدة والضراوة -والوسائل كذلك- حسب التطور السياسي السلمي والمتحضر للمجتمعات. ولأنها تدرك هذه الحقيقة فإنها تأخذ بعين الاعتبار مسألتين: في غاية البساطة -وغاية المعقولية-: هناك شيء اسمه موازين القوى، وهي تحاول أو تسعى لتصحيحه في واضحة النهار مقتنعة بأن الفعل السياسي الصحيح قادر فعلا على التغيير وإحداث الفرق بين الوضعيات. وهناك قوى سياسية واقتصادية لها مصالحها وامتيازاتها ووسائلها تسعى تلك الطبقات السياسية العادية، وهي تمارس معها الصراع، إلى تسميتها بأسمائها وأوصافها الحقيقية دونما حاجة إلى التستر وراء لغة مستعارة من لغة غير اللغة السياسية المعتادة التي يفهم الجميع معناها ومقصدها، حيث تتم -كما يقال- في اللغة الإعلامية الأنجلوسكسونية تسميتها وتحسيسها بالخجل من أفعالها to be named and shamed هكذا لا تعود مقولة الدولة العميقة شيئا هلاميا غامضا أو أطباقا طائرة تحلق في السماء أو مخلوقات لا يمكن أن يدرك تحركاتها إلا من أوتي شيئا من حكمة النبي سليمان الذي دانت له مردة الجن، بل تصبح بنيات مخصوصة ومصالح معروفة وشخوص وفات بعينها، ولحمها ولحمتها المكونة من مصالح وامتيازات ومواقع.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن عناصر الطبقات السياسية التقدمية في الولايات المتحدة تحدثت في مرحلة من المراحل -استنادا على أشغال الاقتصادي كالبرايت والسوسيولوجي ورايت مايلز- عن المركب العسكري الصناعي المسؤول عن سياسات وتوجهات معينة في غير صالح الأغلبية.. واليوم يتم الحديث عن الشرخ الحاصل بين الوول ستريت والماين ستريت، في إشارة إلى الشرخ الحاصل بين طبقة مدراء المال والأعمال المترفة في حي الوول ستريت الذي يرمز إلى تلك الفئة المحدودة وبين الشارع العريض main street الذي يرمز إلى الأغلبي. لا حديث عن مخلوقات هلامية بل حديث عن مراكز وبشر يعرفهم الرأي العام.

وعلى سبيل المثال أيضاً لا الحصر فقد جرى إلى نفس الشرخ النخبوي إلى فئة الأوكس بريدج Oxbridge نخبة النخبة من المدراء الكبار خريجو جامعتي أوكسفورد وكيمبردج حراس معقل حي المال في السيتي المعروفون بارتباطاتهم الاقتصادية مع الأوساط والمراكز الاقتصادية الكبرى. وهنا أيضاً، فإن الأمر يتعلق بأشخاص وقوى اجتماعية -سياسية يعرفها الجميع من خلال وسائل الإعلام وليس بكائنات هلامية.

وعلى سبيل المثال أخيرا، فإن خريجي المدرسة الوطنية للإدارة Ena في فرنسا ظلوا في المخيال الجماعي وفي استعمالات اللغة السياسية نموذج التسمية التي تعطى للنخبة العاملة على إعادة إنتاج امتيازات الأقوياء في هذا البلد. ولم يكن من الصعب أبدا التعرف على الأشخاص المعنيين بهذه التسمية، لأنهم معروفون لدى الرأي العام وليسوا مخلوقات عجائبية.

هل يتعلق الأمر في الحالات الثلاث بالدولة العميقة؟ قد يكون، بالنسبة لمن تعود أن يتحدث دائماً بمنطق الميتا-سياسة (أو ما وراء السياسة) لكنها ليست عميقة بمنطق من يراها كما هي أو يسميها بأسمائها الحقيقية، كما تفعل الطبقات السياسة العادية، الديمقراطية التوجه والهوية؟ أية علاقة بين هذا التفكير الشفاف من جهة والممارسة الخطابية للحزب الأغلبي عندنا حينما يتحدث أقطابه عن الدولة العميقة على الجانب الآخر؟

هذه بعض عناصر الإجابة كما قدمتها الوقائع والشواهد منذ ثلاث سنوات، وهي متفرقة وإن كانت ترمز إلى نفس التوجه:

- حديث فضفاض عن الدولة العميقة لا نعرف من ثناياه هل يتعلق الأمر بلوبيات اقتصادية أم بمركبات إدارية أم بقوى سياسية أم بمؤسسات ثقافية أم بفعاليات ضمن المجتمع المدني!

- حروب كلمات لا تتوقف على الدولة العميقة -تماسيح أوعفاريت- من جهة، وسعي حثيث ومهووس يتوخى تطبيع العلاقات مع مكوناتها بما يوفر المقبولية ويديم نعم مشاركة مستقبلية في التسيير الحكومي بدون أية شروط أو قيود مسبقة قد تعيد عقارب الساعة إلى الوراء!! وهل يمكن أن ننسى مثلا كيف توارى بعض أعضاء الحكومة إلى الظل تاركين رسميين آخرين يوقعون معاهدات واتفاقيات خلال إحدى الزيارات الملكية لدول الخليج.

- حديث لا ينتهي عن مقاومة تبديها الدولة العميقة وعناد لا يصدق في تفعيل دستور يوفر لرئيس الحكومة ما لم يتوفر لرئيس حكومة قبله منذ انطلاق مسلسل التناوب مع حكومة الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي!!!

- حديث عن ازدواجية الخطاب والممارسة عند الدولة العميقة وإصرار على توزيع الأدوار بين جناح حكومي براجماتي وجناح حزبي يجهد نفسه في إبراز مساوقة العمل الحكومي للمرجعية المعلنة من طرف العدالة والتنمية، ورافد دعوي يتولى التذكير بالدوغما العقائدية في صفائها الأولي! حيث تتحول علبة التفكير think tank من مزود للحزب بالأفكار، كما هي العادة لدى الطبقات السياسية العادية إلى وظيفة طمأنة العقائديين في الحزب بان لا شيء في الممارسة السياسية يوجب أو يجيز أو يبرر زحزحة القناعات المستقرة.

إنه إذن نوع من الاستعمال السياسوي المكثف لمفهوم الدولة العميقة يكشف في أحسن الأحوال عن نوع من العجز عن التغيير الملوح به في البرامج، وذلك بتكرار، حتى لا نقول امتهان إلقاء اللائمة على كائنات هلامية، عجز غير معترف به مع الذات non assume، وفي أسوا الحالات تعبير عن بنية عقل سياسي يزعجه اكتشاف أن السياسة هي مسؤولية، تقتضي من السياسيين حينما يتحملون المسؤولية الحكومية، تحملها كاملة، على الأقوال، كما على الأفعال".