الأستاذ محمد المرابط يكتب عن الدولة والمشروع، من المهدي بن تومرت إلى محمد بن الحسن

الأستاذ محمد المرابط يكتب عن الدولة والمشروع، من المهدي بن تومرت إلى محمد بن الحسن

ما طرحناه مؤخرا من خلال "المغرب بلد طائفي؟"، و"هل تخلت الدولة عن مشروعيتها الدينية؟"، سيجد مقاومة من طرف معظم من هم في موقع التدبير الرسمي للحقل الديني وحلفائهم في الصف الأصولي.

لذلك فعنوان اليوم تمليه اعتبارات التأصيل لهذا الطرح، ليس فقط لتأزيم خطاب جبهة الرفض، بل أيضا مراعاة لوظيفة عقلاء هذه الأمة وحكمائها، سواء في صف المجتمع أو الدولة، بغاية الحرص على جذوة الأمل، حتى تبقى متقدة في العقول والأفئدة. وسنتوسل في هذا التأصيل بأمرين يُفترض توافرهما في أي فاعل، وهما الإحاطة بتاريخ البلاد، والحس السياسي، بما يُمَكن لسلطة الملاءمة، أو التنزيل السليم لمتطلبات الإصلاح، وبالنفس البيداغوجي المطلوب لذلك.

المعمار المذهبي للبلاد فقها وعقيدة وتصوفا، خضع في ترسيمه لصيرورة تاريخية تطلبت جهودا وتضحيات كبرى في إطار تكامل الدولة والمجتمع، سنجمله مع الاختيار الحداثي الديمقراطي، في أربعة عناصر للتحسيس بأهمية المشروع بالنسبة لمسألة المشروعية، وتحملات الإصلاح على حد سواء.

1- على المستوى الفقهي: دخل المذهب المالكي إلى المغرب مع مولاي إدريس الأكبر، وتطور مع بعض الإمارات في المغرب، إلى أن ترسم مع عبد الله بن ياسين، وبخاصة على عهد يوسف بن تاشفين المرابطي. وقد تطور هذا الفقه منذ ذلك الحين، إلى قوانين وقواعد وكليات، حيث أصبحت مقاصده تصهر الفقهين المالكي والحنفي، فأحدث على سبيل المثال، ثورة في التشريع الجنائي بالانتقال من العقوبة البدنية إلى العقوبة بالمال، إضافة إلى اجتهادات رائدة كحق المرأة في الأموال المكتسبة مع ابن عرضون، وإجازة الفقيه الحجوي للائتمان، والفقيه الورياغلي للفوائد البنكية، ومنع علال الفاسي للتعدد. وفي مقام القدوة التي جعلها الله "إمامة وسيلة وقوة"، حسب تعبير سيدي عبد الله  الغزواني، لتغيير الذهنيات، كان اصطحاب التهامي الوزاني لزوجته إلى السينما، وسماح أب الأمة لبناته الخروج إلى الحياة العامة، ونشير هنا إلى الوظيفة التأطيرية للالة عائشة، رحمة الله على جميع من ذكر هنا، والآتي بعده أمواتا وأحياء.

2- على المستوى العقدي: وهذا أمر يهمنا الوقوف عليه باعتبار العنوان وخاتمة القول فيه، فقد جاء المهدي بن تومرت ليرسم العقيدة الأشعرية وليضع توليفة دالة في الجمع بين الأمازيغية والنسب النبوي الشريف. وسبق لي في أسبوعية "النشرة" (لسان حال الشبيبة الاتحادية) أن أكدت من خلال مقال: "أي أفق للحوار الديني المغربي-الإيراني؟" 27/12/1993، على "أن الصياغة العامة للدولة المغربية، صياغة موحدية بامتياز". وأكدت على هذا الأمر أيضا في "الاتحاد الاشتراكي" 2/3/1995، من خلال مقال: "الاختراق الشيعي للمغرب ورسالة القرويين". ولعل هذا السياق، هو ما يفسر اختياري لأطروحة "شروح مرشدة ابن تومرت وأثرها في تطوير العقيدة الأشعرية في الغرب الإسلامي"، لاستكمال ما هو مسكوت عنه في رسالة الأستاذ يوسف احنانة حول "تطور المذهب الأشعري في الغرب الإسلامي"، بخصوص تبلور عقائد السنوسي. لكن هذه الأطروحة لم يُرد لها الأستاذ إدريس خليفة الاكتمال، بفعل انعكاس معادلة الصراع حول "الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية"، على البعد الأكاديمي، في عهد الوزير المدغري.

الإمام المهدي شخصية آسرة في تاريخ المغرب. قدرته العجيبة على التركيب، كانت تغذي لدي طموح ضرورة إعادة استلهام مرجعية إمارة المؤمنين لهذه الشخصية المذهبية الخلاقة في تاريخ المغرب، استجابة لمتطلبات الإصلاح، بما في ذلك مطلب الملكية البرلمانية، ولمواجهة المد الأصولي، بما في ذلك المد الشيعي. ولعل هذا الطموح إلى جانب ضرورة تمثيل هذه المرجعية للديمقراطيين، وقد أعلن صاحب الأمر تبنيه للحداثة والديمقراطية، حملني -وبمبادرة من الأستاذ سي محمد اليازغي ومباركته- على قبول الاشتغال تحت الإشراف الإداري للأستاذ أحمد التوفيق. لكن بعد عشر سنوات قدمت له "طلب الإعفاء"/ الاستقالة، لعدم مطابقة الوزن للقافية في المشروع الواعد في أصله، لهيكلة الحقل الديني.

الإمام المهدي مثل مشروعا للدولة المغربية تجاوز بني عبد المومن. لكن ما أن تنكر المأمون الموحدي لهذا المشروع، حين لعن المهدي وأسقط اسمه من خطب الجمعة، وقتل أشياخ الموحدين، ومحا رسوم الدولة ذات الصلة، باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى تم بفعل هذا الانقلاب الرسمي على إديولوجية الدولة، "استقلال" الحفصيين في تونس، وتفكك السلطة في المغرب. وفي هذا درس بليغ للحاضر، لمن ألقى السمع وهو شهيد.

3- على المستوى الصوفي: كانت القادرية تمثل إديولوجية الوطاسيين، لكن ما إن أصبحت هذه الإديولوجية رافعة للطموح التركي في المغرب، حتى مهدت الشاذلية في سياق تكريس  استقلالية المغرب، لقيام دولة الشرفاء السعديين والعلويين. وهذا أمر معروف لدى عموم الباحثين. لكن سأقف وأنا أشتغل على أطروحة حول الزاوية الريسونية، على الدور المحوري لسيدي عبد الله الغزواني في قيام الدولة الشريفة من خلال رسائله إلى تلامذته في الشمال: عبد الله الهبطي وعبد الرحمن بن ريسون وأبي القاسم ابن خجو..، حيث يقول: "ولا رأينا من النصيحة لأهل تامسنا وأحواز مراكش، إلا خدمة السلطنة القائمة بغربنا أقامها الله وأرشدها على أحكام السنة القويمة".

4- على المستوى السياسي: أعلن  صاحب الأمر، سيدي محمد بن الحسن في خطاب العرش 2001، عن "المشروع المجتمعي الحداثي الديمقراطي"، وتفاعلنا من الموقع  النقدي مع متطلبات ذلك، وكتبنا في "الاتحاد الاشتراكي" 17/8/2001: "علماء السلطان والمشروع المجتمعي الحداثي الديموقراطي". وفصل خطاب العرش 2003 في بعض جوانب هذا المشروع من المدخل الديني،، وكتبنا في "الأحداث المغربية" 12/9/2003، "الدين والسياسة في خطاب العرش".

وفي غمرة هذه التفاعلات، والآمال الكبرى في التغيير، كان حوار المفكر محمد عابد الجابري في برنامج "في الواجهة" بالقناة الثانية يوم 22/10/2003، نشره في سلسلة "مواقف"ع22، في دجنبر 2003، جاء فيه: "أعبر عن أمل المغاربة جميعا في أن يكون هذا الملك الشاب هو "ميجي" مغرب الغد. وهذا دوره التاريخي. وما بقي خارج "الميجي" فهو لن يدخل التاريخ. علما بأن الميجي هو الذي قام  بالإصلاحات الجوهرية في القرن التاسع عشر، وبذلك قفزت اليابان إلى ما هي عليه اليوم". ولعل تأسيس الأستاذ الجابري هنا لهذا الطموح  ينبني على نصيحة الفقيه محمد البصري، لعاهل البلاد بضرورة استلهام نهج جده أب الأمة في الحكم. كما نصح المجتمع، وقد خبر "الاختيار الثوري"، بتكامل الدولة والمجتمع. وتفاعلت مع ذلك وكتبت في "الأحداث المغربية" 13/2/2004: "هذا لإنجاح الدور التاريخي لميجي مغرب الغد!".

وجاءت هيكلة الحقل الديني في متم أبريل 2004، تتويجا لهذا المسار بالخطاب القوي المؤطر لها. لكن الأمر على مستوى الأرض أخذ تدريجيا مسارا مغايرا، استُعملت فيه معاول الهدم الممنهج للمعمار المذهبي للبلاد، وبإخراج يندرج في مسمى "سحر" قلب الحقائق والأعيان. لن  يسعنا معها، إلا أن نردد مع الأستاذ الجابري: "وما بقي خارج الميجي فهو لن يدخل التاريخ". فهل يستوعب الأستاذ المؤرخ أحمد التوفيق عمق هذه  الرسالة؟