الأستاذ محمد رشيد أكديرة يشرح أسباب محبة المغاربة للرسول الكريم

الأستاذ محمد رشيد أكديرة يشرح أسباب محبة المغاربة للرسول الكريم

نظم المجلس العلمي بسطات يوم الثلاثاء 10 فبرايربالقاعة الكبرى لولاية جهة الشاوية ورديغة، المهرجان الثاني للسيرة النبوية العطرة في موضوع "التأسي الهادي والتجلي الباني"، ألقى خلاله ذ. محمد رشيد اكديرة الباحث وعضو المجلس العلمي ببرشيد مداخلة بعنوان "من محبة الاحتفال إلى احتفال المحبة"، عرض فيها مشاهد من احتفال المغاربة بذكرى المولد النبوي الشريف وتعلقهم بهذه الذكرى. في ما يلي نقدم ما جاء فيها:

في البداية تطرق ذ رشيد كديرة إلى معنى الاحتفال، فأشار إلى أن الاحتفال بمولد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم له معنىً قلبيٌّ عميق يحياه كل مؤمن يرجو الله والدار الآخرة، ويحب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ويحب أن يرقى في مقامات حبه والهيامِ به، ويريد أن يَسلُكَ طريق أهلِ وُدِّهِ، ويتعلقَ بجنابه الشريف، ويشتاقَ إلى مقامه المُنيف.. إِذْ كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على درجة كبيرة من المحبة والتعظيم، والتوقير والإجلال. وعلى مستوى المغرب ذكر الباحث بأن المغاربة قد تخلقوا منذ دخل الإسلامُ هذا البلدَ الأمين بهذا الخُلق السَنِيِّ، فجعلوا الاحتفال بمولده عليه السلام مَظهرا جليا يُفصح عن عظيم محبتهم وكَلَفِهِمْ بمقام رسول الله عليه الصلاة والسلام... وأشار إلى الأصل التاريخي في الاحتفال، إذ كما يروي ذلك المؤرخ المغربي ابن عذارى، كان أولَّ من دعا إلى هذا الاحتفال الفقيهُ القاضي أبو العباس العزفي اللخمي السبتي (ت633هـ/1236م)، صاحب كتاب "الدر المنظم في مولد النبي المعظم"، والذي أتمه ابنه الفقيه القاضي أبو القاسم العزفي (ت677هـ).. ويذكر في مقدمة الكتاب مجاراة المسلمين للنصارى في احتفالهم بأعياد "النيروز" والمهرجان، و"ميلاد السيد المسيح عليه السلام"، وإسرافَهم في الاستعداد لهذه الاحتفالات وتعظيمِها.. إذ باتوا يبيحون المحرمات ويأتون الفواحش التي نهى الشرع عنها، فدفعته غيرته على الإسلام والمسلمين في الأندلس وخوفُه على هويتهم ودينهم إلى أن يفكر في ما يدفع هذه المناكر ولو بأمر مباح؛ فكان أن انتبه إلى ضرورة العناية بمولد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وبدأ يطوف على الكتاتيب القرآنية بسبتة، ويشرح لصغارها مقاصد هذا الاحتفال، ورأى أن ذلك أنجح وأنفع، كما حض على تعطيل قراءة الصبيان في هذا اليوم العظيم.

يقول الإمام العزفي: "فأيُّ مودّة أبين وأعملت الفكر فيما يشغل عن هذه البدع ويدفع فى صدر هذا المنكر، ولو بأمر مباح، ليس على فاعله جناح، بما تطمئنّ إليه نفوسهم، وتمتد إليه أعناقهم وتميل رؤوسهم، فعلم الله النيّة واطلّع الطّوية، فألهمني (سبحانه) أن أنبهّهم على أمر إذا تقرّر لديهم قامت الحجّة عليهم ديناً ودنيا، وانقطع العذر إذا تعوضوا منه أحسن عوض، يقوم به الشفاء ويطعن به المرض".

ولما تولى ابنه أبو القاسم العزفي إمارة سبتة، كان من إنجازاته أن حقق رغبة والده، فاحتفل في سبتة بالمولد النبوي في أول ربيع من إمارته عام 648هـ/1250م، حتى وفاته سنة 677 هـ/1279م، ودعا الخليفةَ الموحدي عمر المرتضى إلى إحياء الاحتفال بالمولد الشريف، وذلك حين أكمل كتاب والده المذكورَ آنفاً، وبعث إليه بنسخة منه؛ فصار هذا الخليفة الموحدي يحيي ليلة المولد بمراكش ويحتفل بها احتفالا. ووصف ابن عذارى المراكشي احتفال أبي القاسم العزفي في أول ربيع له بالمولد الكريم، فكتب: "ومن مآثره العظام، قيامه بمولد النبي -عليه السلام- من هذا العام، فيطعم فيه أهل بلده ألوان الطعام، ويؤثر أولادهم ليلة يوم المولد السعيد بالصرف الجديد من جملة الإحسان إليهم والإنعام، وذلك لأجل ما يطلقون المحاضر والصنائع والحوانيت يمشون في الأزقة يصلون على النبي عليه السلام، وفي طول اليوم المذكور يسمِّع المسمعون لجميع أهل البلد مدح النبي عليه السلام، بالفرح والسرور والإطعام للخاص والعام

وبين  الباحث بعضا من مظاهر الاحتفال مستشهدا بما ذكره المؤرخ إبراهيم حركات أن أهم احتفالات المغاربة سواء ذات الصبغة الشعبية أو ذات الطابع الرسمي هو الاحتفال بعيد المولد النبوي، حيث أقام مؤسس الدولة المرينية يعقوب بن عبد الحق المريني ليلة المولد بفاس، ثم جاء ابنه يوسف بن يعقوب المريني ليعمم هذا الاحتفال في جميع جهات المغرب، واتُخذ من ذلك الوقت عيدا رسميا. وحين ولي أبو سعيد حكم المغرب أضاف إلى ليلة المولد الاحتفال بسابعه بإشراف ولي عهده أبي الحسن. ثم اتخذت هذه الاحتفالات طابعها الكامل في عهد أبي الحسن وأبنائه أبي عنان وأبي سالم وأبي فارس الأول، فكان يحرص على إحياء ليلة المولد سفرا وحضرا، ويقتني لها أنواع المطاعم والحلويات وأنواع الطيب والبخور مع التزين بأنواع الزينة. وكانت تواكب هذه الاحتفالاتِ الرسميةَ احتفالاتٌ أخرى شعبية، حيث تُقام الأفراح وتتضاعف الأضواء، ويَتجمل الناس بما حسن من الثياب، وصار يوم الثاني عشر من ربيع الأول يومَ دخول الصبيان للكتاتيب القرآنية بفاس، ومناسبةً لختان الأطفال. وكان من العادة يُتهيأ لهذا اليوم السعيد بصنوف المطاعم والحلويات وأنواع الطيب والبخور، مع إظهار الزينة والتأنق في إعداد  مجالس الاحتفال.

وأما في العهد العلوي الزاخر، فيذكر عبد الرحمن بن زيدان في كتابه "العز والصولة في معالم نُظُم الدولة": "وقد جرت العادة عند العلويين أن تقيم الجلالة السلطانية حفلات شائقة ومهرجانات فائقة في ليلة عيد المولد وستة أيام ابتداء من يوم العيد". ويضيف أن مما جرت به العادة في تلك الليلة إنشادَ "البردة والهمزية للبوصيري، يُبدأ بالبردة ثم الهمزية، ويُتخلل ما بينهما بالألحان والتوشيحات". وهو المشهد الذي نراه إلى يومنا هذا، حيث يجلس أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس –حفظه الله – على البساط، ومعه كبار أعيان الدولة وعلماؤها؛ محاطا بالذاكرين والقارئين ومُدّاح رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم إن من مظاهر الاحتفال الشعبي بمولد رسول الله إقامةَ ما يسمى بـ "الميلودية"؛ وهي عبارة عن حفل ديني تحييه بعض الأسر والبيوتات الخاصة كلما حل شهر ربيع النبوي الأنور؛ وهي عادة مغربية مترسخة، مثل حفل "شعبانة" في شهر شعبان، أو إحياء ليلة "الإسراء والمعراج" في شهر رجب. ويُفتتح هذا الحفل بتلاوةِ آيات من القرآن الكريم، فسردِ بعض شمائله وسيرته عليه السلام، وإنشادِ البردة والهمزية ومختلف الأماديح... كل ذلك إظهارا لمحبته والتعلق به عليه السلام. كما أن المغاربة دأبوا على تسمية من وُلد له في شهر ربيع النبوي أسماء الأعلام الآتية: مولود، وميلود، والميلودي؛ إشارة إلى شرف الزمان الذي ولد فيه ذلك المولود. ومن مظاهر الاحتفال الشعبي بالمولد النبوي الشريف إحياءُ ليالي الذكر والإنشاد والمديح بين العشاءين، أو بعد صلاة المغرب وقراءة الحزب الراتب، ويمتد إلى ما بعد صلاة العشاء في المساجد والزوايا والمزارات والأضرحة والبيوتات الخاصة، وختمُ سلك القرآن الكريم وصحيح البخاري وسلك "دلائل الخيرات"، وسردُ وتوريقُ كتاب "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" للقاضي عياض اليحصبي السبتي

وختم رشيد اكديرة  في مداخلته بمقاصد الاحتفال فجعلها تكمن  في الفرح برسول الله وترسيخ التعلق بالجناب المحمدي والتآسي بسيرته صلى الله عليه وسلم ومناقبه وخصائصه، وكذا سرد الشفا، وترديد مختلف الصلوات والتسليمات؛ فهي بذلك "تعليم في قالب توجه، وتوجه في قالب تعليم كما إن طقوس هذا الاحتفال، وتقاليده في الملبس والمطعم والتزين والإنشاد والاجتماع وإحياء ليالي الذكر والتذكير في المساجد والزوايا والمشاهد والبيوتات الخاصة... كل ذلك وغيره كان له الأثر الأجلى في اصطباغ الشخصية الإسلامية المغربية بهويتها المتميزة، وخصوصيتها المميزة. وكذلك  تشكيل الهوية الدينية للمغرب الأقصى وفق هذه الثلاثية المتناغمة: عقيدة أهل السنة والجماعة على مذهب أبي الحسن الأشعري، والفقه على مذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله، والتصوف السني على طريقة أبي القاسم الجنيد البغدادي رحمه الله...