إلى أين هي ذاهبة فرنسا؟..
هل إلى تجديد العهد مع فرنسا الحريات، أم إلى ميلاد دولة تقييد الحريات بشكل غير مسبوق؟ إنه السؤال الذي يفرض نفسه أمام التطورات المتلاحقة في بلاد روبيسبيير ومونتيسكيو وجون جوريس. خاصة أنه علينا أن لا ننسى أن باريس قد سجلت انعطافاتها التاريخية دوما نتيجة أزماتها الوجودية الكبرى التي تولد لديها الأسئلة الكبرى للتحول. واليوم هي أمام لحظة أزمة هوياتية كبيرة، تعيد طرح سؤال معنى الدولة هناك، بل لربما أعمق من ذلك، فهي تطرح سؤال المشروع المجتمعي برمته لبلاد الأنوار. لأنه بعيدا عن لحظات الشد العاطفية التي تصاعدت هناك، مثلما يحدث ثقافيا دوما في الثقافة السلوكية للفرنسيين، كون الذهنية الفرنسية تعشق المجادلة، التي تنحت دوما كثير لغو في الخطاب، مقارنة مع قلة الكلام وكثير الفعل في الذهنية الألمانية أو الذهنية الإنجليزية،، بعيدا عن لحظات الشد العاطفية، هذه الأيام هناك (التي فيها حتى بعض الوقاحة الإعلامية مثل ما سجل بالقناة الفرنسية الثانية)، بعد الجريمة البشعة التي ذهب ضحيتها صحفيون وكتاب ورجال أمن ومواطنون غفل، والتي سقط فيها غيلة، المسيحي واليهودي والمسلم، أي الإنسان البريء في نهاية المطاف، فإن القلق كل القلق كامن في سؤال المآل الذي تذهب إليه فرنسا في قرن التحولات الهائلة أوروبيا ومتوسطيا وآسيويا (الذي قدرنا أن نكون من شهوده) الذي هو القرن 21.
إن فرنسا، هنا، كما لو أنها في لحظة لإعادة موضعة ذاتها ضمن العالم. ومعنى إعادة موضعة ذاتها، ليس بالمعنى السياسي أو الاقتصادي، بل بالمعنى الحضاري. لأن الأزمة عميقة في باريس، على كافة المستويات. ولعل أكبر عناوينها أن فرنسا المثال، هي في لحظة مساءلة أمام ذاتها وأمام العالم. بل، أخشى أن أقول، كما لو أن فرنسا المثال تلك، قد شاخت. وأن ثمة أخرى تحاول الخروج من شرنقة الأزمة المركبة التي أصبحت تطوق المشروع المجتمعي الفرنسي برمته. ويحق لنا التساؤل أمام عمق الأسئلة الحارقة هناك، منذ رحيل آخر الكبار من طينة دوغول وميتران: هل الأزمة أزمة مجتمع أم هي أزمة نخبة جديدة في بلاد ديدرو ودالامبير؟. الواقع هي هما معا. أي أنها أزمة مشروع مجتمعي ما عاد يفرز نخبا بأفق تاريخي حضاري، كما ظل يحدث منذ 3 قرون، إلى حدود انهيار جدار برلين وتأسيس الإتحاد الأوروبي واتفاقية ماستريخت وقرار العملة الموحدة اليورو، التي هي من بنات أفكار فطنة ميتران الفرنسي وهلموت كول الألماني.
شيء ما، أصبح يخون الذكاء الفرنسي المبدع إذن. فاللغة الفرنسية مهددة بالتراجع، إن لم يكن بالاندحار عالميا في أفق 2070، لأنها لم تعد لغة إبداع للسؤال الفكري والعلمي، أوروبيا وعالميا، كما كان مع زمن هنري بوانكاري وليفي ستراوس وميرلوبونتي وسارتر وفوكو ومالرو وقبلهما إميل زولا وفكتور هيجو. مثلما أن الاقتصاد الفرنسي يواجه أزمة في فضائه الأرو-متوسطي، منذ تخلت باريس عن عمقها المتوسطي في بداية التسعينات واختارت أن تتبع برلين في عمقها الجرماني بأوروبا الشرقية، مثلما تبعت واشنطن في حساباتها القومية الخاصة بمشروع الشرق الأوسط الجديد وشمال إفريقيا، الذي كان على حساب علاقاتها التاريخية التي نسجها بحنكة دوغول مع العالم العربي. بل إنه يخشى جديا، أن تكون باريس في طريق العودة إلى منطق فيشي في علاقاتها الدولية، رغم كل القسوة التي في هذا التوصيف، وأن تكون الرأس القربان هذه المرة ليس اليهودي بل المسلم. لأن بلاد ثورة ماي 68 الطلابية والشبابية، التي صنعت معنى جديدا لكل المجتمعات الغربية، بما أفضت إليه من معنى جديد للفرد الغربي، كما لو أنها قد فقدت بوصلة المبادرة أوروبيا وعالميا.
إن غزوة "شارلي إيبدو"، كما لو أنها تسرع من ميلاد فرنسا جديدة مقلقة على أكثر من صعيد، من أخطر ملامحها: ملامح دولة انغلاقية، حمائية، بالمعنى الهوياتي. لأنه هنا تفتح الباب واسعة لخطاب التطرف في السياسة وفي القوانين. فمن الوهم الارتكان إلى أن الحل في أزمة باريس المركبة هذه، كامن فقط في صلابة الحل الأمني، بل إن الحل كامن (كما عبر عن ذلك بشجاعة وزير خارجيتها الأسبق دوفيلبان) في ابتداع حل سياسي. ومعنى الحل السياسي، في ما أتصور، يجد مرتكزه في إبداع رؤية جديدة لفرنسا القرن 21، داخليا وخارجيا. داخليا من خلال التصالح مع قيم الجمهورية وقيم العدالة الاجتماعية والحريات. وخارجيا، من خلال إعادة موضعة علاقاتها مع عمقها المتوسطي والإفريقي، بروح التعاون والتكامل والشراكة، لا منطق الوصاية والتعالي الموروثة عن ثقافتها الاستعمارية السابقة.
على عقل الدولة في باريس، أن يحتاط جيدا من خدر الحلول السهلة، التي تعتقد أن حل أزمة فرنسا كمشروع مجتمع، كامنة في تصفية الحساب مع مهاجريها العرب المسلمين. لأن الأزمة ليست كامنة في مهاجريها، بل في السياسة العامة للتأطير المجتمعي هناك، التي عنوانها سؤال الإدماج. فالإدماج ليس قرارا رياضيا حسابيا، بل قرارا حضاريا. ولعل الدرس الأمريكي والألماني هنا بليغ إذا ما أحسنت باريس قراءته. فالهجرة عنصر ارتكاز بواشنطن وبرلين، من خلال تحويل الحاجة إلى طاقة المهاجرين المنتجة للثروات، إلى جزء من تعزيز منظومة قيم عمومية، هي قيمة العمل في ألمانيا وقيمة الحرية الفردية للإنتاج في أمريكا. غير ذلك، ستفتح فرنسا على نفسها باب جهنم، يخشى أن يسرع، فقط، من آلية التطرف، كي تنتقل من منزلقات أفراد ومجموعات صغيرة، إلى خيار تيارات مجتمعية كاملة. حينها تكون باريس قد خاصمت فعليا كل ذاكرتها وقيمها كدولة للحريات وللعدالة الاجتماعية، وكمنارة للفكر العقلاني الحداثي الحر، الذي كانته. حينها كما لو أن ديكارت لم يكن قط فرنسيا.