دلال البزري: دول ومجتمعات من كرتون

دلال البزري: دول ومجتمعات من كرتون

أربع سنوات مرّت على الثورات العربية، التي لم تبقِ على قناعة أو حال. شيء واحد أكدته هذه الثورات، شيء واحد استطاعت تحقيقه: فصلت بين قبلها وبين بعدها، صار يمكننا القول بأن هناك عهد سبقها، وآخر لحقها، نحن في الآن في صميم معْمعته. وإذا صعب علينا وصف ما ستؤول إليه الأوضاع بعد هذه الثورات، نظرا لتشابك الأدوار والالتباس الذي طرأ على معانيها، ناهيك عن المصائب الإنسانية التي تورثها للأجيال القادمة، فإننا بالتأكيد بعد هذه الثورات صار بوسعنا وصف ما قبلها.

قبلها هذه، هي مرحلة الاستقلال عن الاستعمار وبناء الدولة الحديثة، المستجيبة لمتطلبات العصر، القادرة على التعامل معه الخ. ومع تفاوت تواريخها بين كل دولة عربية وأخرى، يمكن تحديد الأربعينات والخمسينات وحتى الستينات من القرن الماضي، كبداية لبناء هذه الدولة الما بعد استقلالية.

والمفترض كان بهذه الدولة أن تبني هياكلها، برلمان ومؤسسات وقوانين وعلم وطرقات ومدارس وجامعات ووكالات تجارية وغرف تجارية؛ كان يفترض أن تخطط للمدن والقرى وللاقتصاد وتنظّم المهن وتوقع الاتفاقات التجارية والإنسانية. لم تكن البدائل الديمقراطية قد أخذت طريقها بعد إلى لسان قادة هذه الدول ومواطنيها، إلا بنسبية شديدة، بتلاعب بالعقول والأرقام، بحيل ساذجة تدعو اليوم إلى الابتسام من شدة بساطتها. لم تكن الديمقراطية هي نجمة الموضوعات إذن، ولكن كان في المناخ، الأقوى من كل شيء، توق لبناء هوية وطنية، غير تابعة، مستقلة، تحمل وعدا مقنعا بأن الحياة سوف تكون أفضل بعد كل يوم يمضي. السيادة الوطنية والاستقلال بالقرار الوطني كانا يحملان نداوة بداياتهما، وفي الهواء شعور بأن العدالة، خصوصا الاجتماعية، آخذة بمصعدها إلى فوق. أما الدين، فبدا بريئاَ، منخرطاً في عملية البناء بهمة المؤمنين الصادقين، لا يحتاج إلى جلادين ولا طغاة. كل هذه التصورات أو الأفعال كانت تسبح بسرعات متفاوتة في مياه ظروفها ومعطياتها وسياقات تاريخ أصحابها؛ لا تبالي، إلا قليلا، بالغارقين من بين أبطالها، أو الهالكين اختناقا.

وعشية اندلاع الثورات، كانت كلها قد تبدلت ملامحها. كأن الثورات التي لم تكن على مستوى تطلعاتها في تحقيق أبسط مطالبها، أي إسقاط النظام القديم، تمكنت على الأقل من إلقاء ضوء على المرحلة التي سبقتها، ضوء غير جديد تماما، ولكنه الآن مسلط، وبحدّة، على وعينا. الثورات العربية بدت أقوى من أصحابها وأعدائها في آن: عرّت الدولة وعرّت المجتمع. فانهارت كالكرتون صروح بناها أبناء الأربعينات والخمسينات والستينات من القرن الماضي، وفاض نهر تلك الهشاشة البنيوية التي قامت عليها دولنا ومجتمعاتنا عليها.

فاض النهر فسقط القانون والتعليم والثقافة والدين والأخلاق والعمل والمستقبل والعائلة والاستقرار والزواج والحب والصداقة... غرقوا كلهم في حمم براكينها المتفجرة. وبدا كل ما راكمه الناس في عهد ما بعد الاستقلال، كل ما راهنوا عليه من استقرار، كل ما أملوا به في سريرتهم وعلانيتهم، كل هذه الثقة راحت، وبرمشة عين.

فيما جانب الدولة بدا سراباً في قلب الصحراء. خرج القانون والمؤسسات والطرق والإعلام والمستشفيات من اليقين... تخلصنا من أوهام الدولة الوطنية السيادية صاحبة القانون والمداورة، ولو تحايلاً. فخلعت الدولة بذلتها الرقيقة ولبست ثوبها الركيك، الذي لم تعد تخجل منه: فسادها بعلانيته الخطيرة، عصاباتها العائلية والحزبية وبطشها، الممهّد لبطش "داعش"، زبانيتها، انعدام كفاءتها، تبعيتها للخارج الذي يؤمِّن دوام رجالاتها. قبل أربع سنوات، كان للدولة هيبة نسبية، شكلية، عبرت كل عواصف خطايا رجالاتها ونزواتهم الشخصية-السياسية. بدا المجتمع صابراً عليها، متثاقفاً معها، هو الضحية، طعّمته الدولة المتهالكة، بمعالمها وأخلاقها. أما الآن، فالاثنان في حطام سفينة واحدة من الضياع؛ كأن العقود الستة التي مرت علينا، دولة ومجتمعات، لم تكن سوى من كرتون، ذاك الورق المقوّى الذي يستخدم عادة لنقل البضائع أو تجليد الكتب أو تغليفها.

(عن جريدة "المدن" الإلكترونية اللبنانية)