محمد البوبكري: آراء في توصيف الفقه التربوي

محمد البوبكري: آراء في توصيف الفقه التربوي

لطالما سمعنا عن الفقهاء المربين في أزمنة غابرة طالها غبار النسيان، وصار الفقه الإسلامي بعيدا عن التربية بمفهومها الشامل، وأصبح الفقيه بعيدا عن الممارسة الأخلاقية لمهنة هي الأشرف في ميزان العلوم الشرعية، من جهة أنها تكشيف لأحكام الله تعالى المنزلة على الناس، وكذا أنها مرتبطة بأسمى ما يطمح إليه كل مشتغل بالعلوم الشرعية، ألا وهو الاجتهاد. ثم إن ما جعلني أكتب في هذا الموضوع، هو ما رأيته من طلاق بين زوجين تدل كل النواميس الكونية على أنهما لا ولن يفترقا أبدا، لكنهما افترقا وضاعت ذريتهما من بعدهما في شوارع التيه أسفا!!، ألا وهما الفقه والتربية.

إن الارتباط القائم بين التربية والفقه، بما هو علم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية، فهو إذن عملية متكررة في الزمن، تقدم منتوجا عاما للأمة، أو خاصا بأحد أفرادها، بحسب الحالة؛ لكن أما آن للفقه أن يرتقي عن حالة الطوارئ هذه؟!أقصد بما أسلفت أن الفقه ارتبط بمجرد تقديم الإجابة للنوازل، التي تعرض للناس في حياتهم اليومية، مما جعله ينسى نفسه من حيث هو، وينغمس في دنيا الناس بقواعد و ضوابط قديمة كانت تنفع مع أناس لهم من الرعيل الأول رائحة قوية.

إن دور الفقيه إلى عهد قريب (حتى 1990 م) لم يكن محصورا في تحفيظ القرآن الكريم، ومتون الفقه للطلبة، كانت الحمولة التربوية حاضرة بقوة، في كل عناصر المنهاج التدريسي، ويتجلى هذا الحضور من خلال مجموعة من المؤشرات وهي:

1- من جهة المدرس:

لقد كان المدرس مربيا بالدرجة الأولى، حيث إن الفقيه كان له من الهيبة النفسية، الناتجة عن قيمته التربوية أثر كبير، من خلال أنه يقوم بتقويم اعوجاج الطلبة أخلاقيا قبل التقويم المعرفي، ولا تكون له تلك المكانة الاجتماعية إلا إذا كان قائما بمهمة التربية أولا، ثم التربية ثانيا، ثم التربية ثالثا، ثم التعليم رابعا.

2- من جهة الطلبة:

لقد كان الطالب للفقه عالما بالمهمة الملقاة على عاتقه، والمتجلية في توجيه الحياة العامة للجماعة، التي سيؤمها ليس فقط في الصلاة بل في الحياة.. إن هذا التصور كان من شأنه تثبيط المقدم على الفقه عموما، لكن الغالب واصل المسير نحو المحراب..

3- من جهة المادة المدرسة:

لقد كان للمادة المدرسة تأثير هام في مسيرة الدرس الفقهي، حيث عرف الفقه حينها بمسائل تعجيزية تعرف بين الفقهاء وتحفظ عن ظهر قلب حتى يسلم الفقيه من مكر الفقيه!! وصار الفقيه يشكو إلى ربه من جفاف القلوب، وضيق الصدور عن إعمال آلة الاجتهاد، فهما، وتدقيقا، وتمحيصا لمحل النزاع، وربطا للمسألة بالسياق العام لورودها، ونقدها، وتوجيهها بالشكل الذي يسمح به وضعها التشريعي.

4- من جهة الأهداف التربوية:

لقد كان الهدف متوزعا في الحقيقة إلى هدفين رئيسين: أولهما مضمر، وهو الهدف الأخلاقي، وهو مضمر غير مصرح به، لأنه مما جرت به العادة و تعارف عليه الناس حتى أصبح من البداهات، (ولو كان مصرحا به لكان أفضل)!، أما الهدف الثاني فكان معرفيا: حيث يتوجب عليه أن يكون حافظا لمتون فقهية كثيرة، حتى ولو لم يحسن الاستدلال بالنص في مكانه، بل كان مجرد سرد مجموعة من المنظومات كافيا ليقتنع المتلقي بكفاءة الفقيه، ولو لم يدرك معنى ما قاله!!!

إن الغرض من هذا العرض الموجز ليس بغرض التشهير بفقهائنا (حاشا) ولا التنقيص من مقدارهم، بل هو وصف لواقع نعايشه ولا نرتضيه، واقع آل فيه الفقه إلى القبوريات فحللها، وصار معها إلى أبعد الحدود.

إن سؤال التربية الفقهية ملح خاصة في زماننا، وما لزماننا عيب سوى أننا سكتنا، وما درينا أن في سكوتنا يسبح الداء في أجسادنا، حتى إذا ما استفحل، صرنا إلى الطبيب فوجدناه هو مصدر عللنا!! فما كان منا إلا أن توسدنا الندم وبكينا!!