ما الذي يذكي هذه الحملة المسعورة والإصرار على إعلان العداء على المسلمين والإساءة إلى الرسول الكريم؟ وكيف تتغاضى أوروبا عن حقيقة أن هناك أكثر من مليار و300 مليون نسمة في العالم تعتنق الإسلام؟ وكيف تصبح حرية التعبير حقا وراءه باطل عندما تجرؤ وسائل دعائية على المس بالمقدس والمعتقد عند ربع البشرية؟ وما هو موقف وردود النخب المختلفة المشارب السياسية والفكرية حول هذه "الغارات" غير البريئة التي تلصق الإسلام بالإرهاب والتي لا تغذي سوى الحقد والعنصرية والتطرف؟ أسئلة يطرحها موقع "أنفاس بريس" على فعاليات متعددة داخل المجتمع المغربي. وفي هذا الإطار كان لنا لقاء مع الأستاذ محمد خالد الباحث في الشؤون الإسلامية بسطات، الذي اعتبر بأن أحسن رد على الحاقدين يكمن أوﻻ في تقريبهم من فضائل الرسول ومغزى محبة المسلمين لرسول الله والاحتفال بذكراه الذي هو تجديد يومي لتعظيمه وإكباره...
"بإطلالة اليوم الأغر الثاني عشر من شهر ربيع الضياء، تحل الذكرى العطرة والمناسبة السنية ذكرى مولد المصطفى النبي الكريم سيدنا محمد، المخصوص بالتجلة والتعظيم والإكبار سيد الوجود، صاحب المقام المحمود واللواء المعقود، أمين الوحي نزيل العرش، حبيبنا وإسوتنا وشفيعنا يوم البعث والنشور، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
لا جرم أن الأمة الإسلامية تحتفي قاطبة بأعظم حدث في الكون، مولد خير البرية إمام الأنبياء وأشرف المرسلين، الرحمة المهداة والنعمة المسداة للعالمين.
"ولد الهدى فالكائنات ضياء/ وفم الزمان تبسم وثناء"
يتميز هذا البلد الأمين، المغرب المحروس العامر باحتفالاته الدينية البهيجة في الغرب الإسلامي وغيره من الأقطار والأمصار، والتي تقام بالمساجد والزوايا ودور العبادة، في فضاءات روحية فواحة بأريج النفحات الربانية، محجلة بآلائه النورانية، متضوعة بالبركات المحمدية، إحياء لذكرى مولد النبي المعظم المحبوب سرمدا. محبته من حرمات وشعائر الله تعالى، التي يجب أن تعظم وتجل (ورفعنا لك ذكرك) سورة الشرح الآية 4. عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله قال: "أتاني جبريل فقال: إن ربي وربك يقول: كيف رفعت لك ذكرك؟ قال: الله أعلم، قال: إذا ذكرت ذكرت معي". وجاء عن أبي إسحاق الشاطبي قوله "قرن اسمه باسمه في عقد الإيمان وفي كلمة الأذان، فصار ذكره عليه الصلاة والسلام مرفوعا منوها به".
خصه العلي القدير بصفات عديدة وخصائص جمة، وأنعم عليه بمواهب بهية ومنح سمية. فكان أفضل خلقه على الإطلاق. قال تعالى: "وكان فضل الله عليك عظيما" النساء الآية 113. نظم الإمام البصيري في بردته المشهورة:
"محمد سيد الكونين والثقلين/ والفريقين من عرب ومن عجم
نبينا الآمر الناهي فلا أحد/ أبر في قول لا منه ولا نعـم
هو الحبيب الذي ترجى شفاعته/ لكـل هول من الأهوال مقتحم
فاق النبيين في خلق وفي خلق/ ولم يدانوه في علم ولا كرم"
من نافلة القول، كلما أشرقت الذكرى المباركة لصاحبها المختار المجتبى، الذي أرسله جل وعلا بشيرا ونذيرا وسراجا منيرا، وختم به الرسالات وأكمل به شريعة الإسلام. وكان الحبيب الأزهر يحيي ذكرى مولده في كل أسبوع مرة. يلازم صيام يوم الاثنين. فلما سئل عن هذا قال "هو يوم ولدت فيه وأنزل علي فيه". فصومه شكر لله ومظهر من إحياء ذكرى مولده وإيحاء بمنزلة هذا اليوم مما يحث على الاهتمام بشأنه لكن ينبرى الجدل ويحتدم الرأي ويختلف النظر بين محبذ ومؤيد لإقامة الاحتفال بالذكرى الشريفة ومتنطع مبدع، يمتح تصوره من خواطر الفكر العقيم المستند إلى القياس السقيم، في منأى عن الاستدلال الشرعي الصحيح، وفي انزياح عن الاهتداء بسنته المبينة واتباع نهجه والانصراف عن التحلي بأخلاقه والتأسي والاقتداء به في حياته. "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ إسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا" الأحزاب الآية 21 فمحبته مطلب شرعي، امتثالا للحديث النبوي الشريف "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين". حبه زلفى وعبادة مشروعة تعزز المعطى الإيماني الوجداني التصديقي. به يتقرب العبد إلى الخالق سبحانه. محبة نبي الرحمة روح الإيمان وموجبة لمعيته. ومن تجليات الخصوصية الدينية والخصائص الحضارية والثقافية للمغاربة، حبهم الصادق المتفاني به، الذي يسري بين الحنايا بل عشقهم إلى حد التماهي لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام ولآل بيته الطيبين الأكرمين وصحابته الغر الميامين.
"وما تغنى شعب بحب المصطفى مثل ما تغنى المغاربة، وما ضرب أحد مثالا أرقى و أمثل مما ضربه المغاربة في حب سيدنا محمد، والشعر المغربي القديم بامتداده الأندلسي المعني بوصف الرحلة إلى الحج وإلى المشرق عموما حافل بتباريح الوجد ولوعة الشوق إلى ديار الحبيب سيدنا محمد بما لم يعرفه شعب من الشعوب". ورد في كتاب الشفا: اعلم أن من أحب شيئا آثره وآثر موافقته، وإلا لم يكن صادقا في حبه، وكان مدعيا. فالصادق في حب النبي من تظهر علامة ذلك عليه، وأولها الاقتداء به، واستعمال سنته، واتباع أقواله وأفعاله، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والتأدب بآدابه في عسره ويسره، ومنشطه ومكرهه، وشاهد هذا قوله تعالى، (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) سورة آل عمران الآية 31).
لقد تنوعت كما هو معروف مجالات عناية واهتمام المغاربة بعلوم السيرة النبوية وبأغراضها ومناهجها. فكان من أبرزها مجال الكتابة والتأليف في فن المولد النبوي الشريف، الذي يجسد عمق المحبة الخالصة للنبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
ذكرى مولد النبي العظيم في غاياتها العميقة ودلالاتها القوية، أسست لميلاد أمة بأسرها. عاشت قرونا شتى سادرة في غياهب الضلالة والغي والعصبية والتناحر والاحتقان والاقتتال والحرابة حتى ظهر النور الوهاج، يجلو الديجور وينضو سجف التخلف، وينتشلها من براثين الجاهلية ويوحدها ويمحضها اعتبارها الإنساني ووضعها الحضاري ومركزها الاجتماعي. فأصبحت في العز والمجد والسؤدد بعد الذلة والهوان. ذكرى جليلة نستضيء بأنوارها ونستوحيها العبرة، لتمدنا بمعاني القدوة البانية والحكمة الهادية. قال "من أحبني فليستن بسنتي". فهي ذكرى الهداية والنبراس الساطع، الذي غمر سعادة وبشائر الوجود إيذانا بميلاد الحق وأفول الباطل، وقيام دولة التوحيد واندحار دواعي الشرك والكفر والجهل. قال تعالى: "لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين" سورة آل عمران الآية 164.
إن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف نمط تعبيري عن أسمى مشاعر حب المسلمين للنبي. وإظهار المحبة ومشاعر الكلف الصادقة أمر تعبدي مكين، وليس مجرد سوانح احتفالية ذات تداعيات وأبعاد سوسيوثقافية وتراثية تؤدى في أشكال طقوسية. فهو إذن احتفال برمز منظومة القيم الإنسانية الراقية، وبملاك الكمالات البشرية وجماع الفضائل والشمائل المحمدية النبيلة، التي تقف الحروف حائرة على أعتاب توصيفها يمنعها من التشكل حياء التقصير فترتد مزنوة بالعقم عاجزة عن البيان. إذ تسفر أيقونة كبرياء الكمال وجمال الصفات والخلق العظيم فوق كل تنميط نطقي وتحبير لفظي. قال "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر وبيدي لواء الحمد ولا فخر وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي وأنا أول شافع ومشفع ولا فخر".
ستبقى ذكرى المولد النبوي الشريف مشرقة ناصعة يقف أمامها الإنسان أينما كان إجلالا وإكبارا لأنهما احتفال بالرسول العظيم أستاذ البشرية الذي أنار للإنسانية سبيل الرقي والسعادة.
لا غرو أن العلماء والأدباء مازالوا يؤلفون كأضرابهم القدماء الذين وضعوا التصانيف والتآليف في محبة سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيئين، وفي بيان حجية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف. ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: سفر الدر المنظم في مولد النبي المعظم لأبي القاسم العزفي وكتاب المورد الهني في المولد السني للحافظ العراقي ومؤلف حسن المقصد في عمل المولد للإمام السيوطي وهو القائل رحمه الله: (ولادته عليه الصلاة والسلام أعظم النعم علينا) وكتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي أبي الفضل عياض اليحصوبي (ت544هـ).
فالاحتفال بمولد النبي الكريم يعتبر من جلائل الأعمال بل من أوجبها وأوكدها حسب فضلاء الأمة، خصوصا أننا في راهنية تمور بنوازع التدافع والتجاذب والتربص الاستقطابي المغرض والتيارات الكيدية الضالة التي تسعى إلى زعزعة العقيدة الراسخة والإساءة للأمة المحمدية التي قيض الله لها الدين الحنيف والشريعة المباركة والإسلام الخالد الصالح لكل زمان ومكان.
والاحتفال بمولد الرسول يقام من باب الاستمداد من فيض الرحمات الربانية واستدرار رضى الله وبركاته وأفضاله عز وجل وتثبيت وإحياء مشاعر الإيمان في القلوب. قال تعالى: "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون" سورة يونس 58. وفي منحاها المقاصدي استشفاع وتوسل به عليه الصلاة والسلام في صالح الأعمال وقضاء المآرب والجوائح. يفرح المومنون بمولد أحب الخلق إلى الله وأكرمهم عليه جمع له كمالات السجايا وخصه بأرفع المقامات وأرقى الدرجات الاصطفائية فخاطب حبيبه وصفيه. "وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ" القلم الآية 4.
وتجدر الإشارة إلى إجماع الباحثين والدارسين والمهتمين بتيمات السيرة النبوية المطهرة، على القول بأن المؤلفين: الرواية المغربية للسيرة النبوية والمصنفات المغربية في السيرة النبوية ومصنفوها. للعلامة الأديب الدكتور محمد يسف قطب السيرة النبوية وعميدها، مصدران قيمان يستجليان مناحي مهمة في شساعتها وامتداداتها التراثية والثقافية للمغاربة في السيرة النبوية، وتحيل من خلال الرجوع إليها على مصادر إسنادية نفيسة غاية في الأهمية وعلى ذخائر من أسفار وأضابير ثمينة.
"سلام على الرسول قد جاء هاديا/ شعوبا لكم عــاشت بجهل تــأبدا
شدا الكون بالميــلاد رصع أوارا/ ذرى الخافقين كم تصادت زغاريدا
تحلـى رغام الأرض زين أزهارا/ تلألأت الجوزاء تهتز تحميدا
أيا خير خلق الله أرسلت رحمة/ لكل الأنــام داعيـــا وموحدا"...".