لا يمكن للمثقف الحر الذي تضامن مع الإخوان المسلمين في محنتهم وعبر ذلك كله مع الأصوات المنادية بالديمقراطية والتغيير في العالم العربي، لا يمكنه أن يغفل وباسم المبادئ نفسها التي جعلته يتضامن معهم، ضرورة عرض أفكارهم ومواقفهم على مشرحة النقد، بل وضرروة مطالبتهم بتغيير عقليتهم ورؤيتهم إلى الدين والسياسة والثقافة مرة وإلى الأبد، وإلا فإن العصر سيلفظهم كما لفظ أنظمة القهر.
فالثقافة التي يروج لها الإخوان لا تربطنا بالعصر ولا تربطنا بالماضي، وإنما تختزل الاثنين معًا في رؤية أقل ما يمكننا القول عنها إنها بئيسة ومثيرة للسخرية. تجمعني بين الحين والآخر لقاءات مع رجال دين مسيحيين ويهود في الجامعة الكاثوليكية في باريس أو في ألمانيا، وأندهش لقدرة رجل الدين المسيحي أو اليهودي على التفكير والتفلسف والنقد، لكني حين أقف أمام من يمثل الإسلام اليوم لا أسمع غالبًا سوى لغو وثرثرة وخطاب يبعث على الحزن إن لم يكن على التقزز.
ولا أتجنى على أحد إذا قلت بأن على الإسلام اليوم أن يتعلم الشيء الكثير من المسيحية الغربية ومن خطابها الفلسفي ومن تجربتها، فالإسلام لم يصطدم في وقت مبكر مع الحداثة وإنجازاتها وتحدياتها وهو ما يجعل رؤيتنا إلى الدين أبعد ما يكون عن لغة العصر اليوم، وما يجعل ثقافتنا تفرخ لرجال دين مازالوا يعتبرون الديمقراطية كفرًا والمساواة بين الرجل والمرأة تفريطًا في الدين.. إلخ. فنحن لا نحتاج إلى من يحكمنا باسم الإسلام، ولكن إلى أخلاق إسلامية وشتان بين هذا وذاك وبين الأخلاق وسلطة الأخلاق.
إن الإخوان المسلمين حركة في المعارضة، ولكنها ليست حركة معارضة. وبلغة أخرى، إنها لم تؤسس لمعارضة حقيقية لثقافة الاستبداد، لهذا تظل في رأيي جزءًا من منظومة الاستبداد نفسها وليست خارجها، رغم نواياها الحسنة، ولكن التاريخ لا يحكم على النوايا، والخطابات العاطفية وحدها لا تكفي لتغيير واقع ينوء بأمراض لا أول لها ولا آخر.
لم أكن لأفكر بكتابة هذا المقال لولا مقال قرأته لأحد المنافحين عن الحركة، وهذه المرة عن قضية ثقافية، ولكن طريقة تناولها، تكشف عقلية الحركة الإسلامية ومن يمثلها وينظّر لها اليوم في العالم العربي، وتؤكد بشكل لا يدعو للشك بأن الثقافة التي تدافع عنها الحركة هي حجر عثرة أمام لحاقنا بزمن العالم، وأنها تؤبد من حيث لا تشعر قبضة الاستبداد علينا وإن كانت تتوهم أنها تقاومه؛ فالاستبداد لا ولن يخاف من الحركة إلا إذا اعتنقت مبادئ الحداثة وقيمها، وبلغة أخرى إذا غيرت من رؤيتها للدين والسياسة والثقافة.
أعني بالمقال ما كتبه فهمي هويدي في ذكرى طه حسين، والذي جاء تعليقًا على كتاب لمحمد عمارة عن هذا العلم الكبير. لن أتوقف كثيرًا أمام المقال، وسأكتفي بعنوانه: “طه حسين أوّابًا”. لننتبه إلى لغة المفكر الأيديولوجي، فهو يستعمل كلمة الأوبة مقابل كلمة الاغتراب. إن الكلمتين في حد ذاتهما مشروع، أو تعبير عن مشروعين متناقضين، أولهما مشروع مسكون بمرض الأصل أو وهمه، برغبة مرضية في العودة إلى أصل انقطعنا عنه ولا يمكننا أن نعيشه بالطريقة نفسها التي يريدها لنا التيار الأيديولوجي، وكلمة الاغتراب التي يتغافل هذا التيار عن أبعادها الحضارية الكبرى وما تتضمنه وترمز إليه من لقاء بالآخر وبزمن العالم، من خروج من الذات إلى الذاتية.
يغفل المفكر الأيديولوجي ذلك، لكنه يتسرع كما عودنا دائمًا في إصدار الأحكام، فهو يحكم ويحاكم ولا يفكر، وهو ابن الخطاطة التي عودتنا على الالتحام بأوهام الجماهير بدل الوقوف ضدها وفضحها. إنه يفهم الوعي النقدي كتشكيك في مقدسات المسلمين وهويتهم، ويختزل مشروع طه حسين كله فيما يسميه مرحلة الإياب، وهو بذلك لا يسيء فهم مشروع طه حسين التنويري والثوري، بل ويسيء فهم الأبعاد الثورية للإسلام نفسه، كدين أسس للمعرفة والثورة على السائد، للاغتراب والهجرة، وليس للأوبة والتوبة.
أقرأ في “الحداثة المعطوبة” لمحمد بنيس، التالي: “أعجز أحيانًا عن فهم وتفسير هذا التعامل الشرس مع الذاكرة الثقافية. شراسة تأتي من كل ناحية لتلتقي عند نقطة هجران الذاكرة أو التطويح بها، بعيدًا، في أعمق الظلمات، الجهات تبدو الآن جاهزة لتصفية الآثار الباقية لما تم وأنجز، هنا وهناك، وكأن الذين جاءوا ليقولوا كلمتهم وقالوها، بجرأة واستبسال، هم مجرد وهم أو خطأ هم بنا ذات صباح. شراسة ترغمنا على التبرؤ من تاريخنا الثقافي الحديث، فلا تسمح لنا، بعد، بالعثور في الكتابات والأعمال، فضلًا عن الكتاب والفاعلين الثقافيين، إلا على الجيف التي علينا القبول بحرقها علانية وجرها إلى المدافن الجماعية، بأمر ما يعترينا“.
سيتحدث محمد بنيس في الكتاب نفسه عن طه حسين كمفكر يأتينا من المستقبل وليس من الماضي، عن مثقف تنويري أسس للشك والنقد في ثقافة تمعن حتى يومنا هذا في تجريم النقد والشك غير مدركة أنها عبر ذلك تؤبد قيم الاستبداد والتخلف.
(عن موقع "التقرير")