في زمنٍ تتراجعُ فيه اللغة أمام إيقاع السرعة وسطوة الآلة، يعودُ سؤال المعنى ليفرض نفسه بإلحاح : من يحرس الكلمة حين تُختزل في وظيفة تقنية !؟ ومن يُنقذ النص من أن يتحول إلى ملف بلا روح !؟.
في هذا السيّاق، يبرزُ اسم الأستاذ المصطفى المعطاوي، بوصفه نموذجا مغايرا، كاتبا وناقدا يمارسُ التدقيق اللغوي باعتباره فعلا ثقافيا وموقفا أخلاقيا، لا مُجرَّد خدمة عابرة.
لا يكتفي المعطاوي بتصحيح الأخطاء، بل يُنصت إلى روح النص ويحرسُ معناه .. ليس المدقق اللغوي، عند المصطفى المعطاوي، ذلك الكائن الخفي الذي يمرّ على النص مرور الكرام في "مأدبة الكلام"، يضع فاصلة هنا ويشطب كلمة هناك، ثم ينسحب في صمت.
المعطاوي حالة ثقافية قبل أن يكون صاحب خدمة راقية، فهو من أولئك الذين يؤمنون بأن اللغة ليست زينة خارجية للفكرة، بل هي الفكرة نفسها في أقصى درجات تجليها. لذلك لا يتعامل مع النصوص بوصفها “ملفات” قابلة للمُعالجة، بل بوصفها كائنات حيّة، لكل واحد منها نبرة، وتاريخ .. تحمل قلق صاحبها، وحلمه المؤجل بالنشر أو الاعتراف.
حين تقترب من المصطفى المعطاوي، تكتشف سريعا أنك أمام أستاذ وكاتب وشاعر وناقد، لا أمام مُصحّح آلي بملامح بشرية. يعرف ما يعنيه التأليف لصاحبه، وما تعنيه أطروحة جامعية لباحث استنزف عمره بين المراجع والأسئلة. لذلك ينصت للنص قبل أن يلمسه، ويفهم منطقه قبل أن يصوّبه، ويحترم صوت صاحبه قبل أن يقترح عليه بديلا لغويا مُناسبا.
في زمنٍ تحوّل فيه التدقيق اللغوي إلى تجارة، تُقاس بعدد الصفحات وسرعة الإنجاز، اختار المعطاوي طريقًا آخر .. طريق العلم بوصفه قيمة لا تُسعَّر. لا يبدأ بالسؤال عن الأجر، ولا يضع اللغة في ميزان الربح والخسارة. ما يطلبهُ، في المقابل، هو أن يتعلّم الكاتب من التصويبات، وأن يخرج من التجربة أكثر وعيا بلغته، لا أكثر اعتمادا على غيره.
يرفض اختزال اللغة في ذكاء آلي جاف، لأن الآلة – مهما بلغت دقتها – لا تفهم الارتعاش الخفي للجملة، ولا تحسّ بثقل المعنى، ولا تميّز بين خطإٍ لغوي وخيار أسلوبي واع. وحده الإنسان، في نظره، قادر على الإصغاء إلى روح النص، لا إلى قشرته فقط.
وما يميّز المصطفى المعطاوي أكثر، أن علاقته بالعمل لا تنتهي عند آخر تصحيح، إذ يُرافقُ النص وصاحبه، كما يُتابع الأطروحة حتى مناقشتها، ويلاحق الكتابَ حتى يرى النور في المكاتب والمعارض، ليستقر بين يدي القراء، فنجاح العمل عنده، جزء من مسؤوليته الأخلاقية لا مجرد صدفة لاحقة.
في حضرته، لا تشعر أنك “زبون”، بل شريك في فعل معرفي. ولا تحسّ أن نصك خضع للتشذيب، بل للاعتناء، ذلك لأن المعطاوي لا يدقق اللغة فحسب، بل يحرس المعنى.
وهنا، بالضبط، يصبح التدقيق اللغوي فعلَ وفاء، يحمي المصنف الأدبي والعلمي ويبرزُ قيمته الفكرية شكلا ومضمونا.