زكية لعروسي: حين تتعدد الأصوات… ويصبح صوت الصحراء فكرة جامعة

 زكية لعروسي: حين تتعدد الأصوات… ويصبح صوت الصحراء فكرة جامعة مشاهد من الندوة
لم تكن تلك القاعة الباريسية مجرد مكان عابر لندوة سياسية، بل تحولت في تلك اللحظة الى فضاء رمزي اتسعت فيه الجغرافيا حتى لامست الصحراء المغربية بكل إمتدادها وعمقها. هناك حيث التأم الفاعلون السياسيون والمفكرون والاكاديميون وممثلو المجتمع المدني بدعوة من حركة مغرب الغد ومؤسسة واحد وثلاثين اكتوبر من اجل الصحراء المغربية، لم يكن الوطن موضوعا للنقاش فقط، بل كان حاضرا بكل ثقله التاريخي وحرارته الوجدانية، جالسا بين المقاعد، منصتا، ومختبرا صدق الكلمات.
كانت الندوة حول قضية الصحراء المغربية لحظة نادرة التقى فيها الماضي بخبرته والحاضر باسئلته والمستقبل برهاناته، فامتزجت الذاكرة السياسية بالعقل القانوني والرؤية الاستراتيجية، وتحول النقاش الى مسار حي يعكس تعددية المجتمع المغربي بتنوعه الفكري والسياسي وإختلاف مواقفه دون أن يفقد بوصلته الوطنية. في هذا الفضاء لم يكن الاختلاف سببا للتنافر، بل شرطا للغنى، ولم تكن الصحراء نقطة خلاف، بل مساحة جامعة تحمل الجميع فوق كثبانها كما يحمل الرملآاثار الاقدام المختلفة دون ان يميز بينها.
إفتتح الدكتور مصطفى عزيز رئيس حركة مغرب الغد اللقاء بكلمة هادئة في نبرتها عميقة في دلالتها، مؤكدا ان الصحراء ليست ملفا ظرفيا ولا ورقة تفاوض عابرة، بل جوهر المشروع الوطني المغربي، ومسؤولية تاريخية تستدعي خطابا عقلانيا وفعلا سياسيا متزنا يؤمن بان الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية ليس تنازلا بل تتويجا لمسار طويل من الشرعية والانتماء. وتحت تسيير ذكي ومتزن للمهندسة اسماء بن بهيدة تحولت الندوة الى فضاء حوار مفتوح لا يقصي ولا يختزل، بل يمنح لكل صوت مكانه داخل سردية وطنية كبرى.
جاءت مداخلة البرلمانية البلجيكية لطيفة ايت بعلا لتمنح للنقاش بعده القانوني والانساني، حيث قدمت الصحراء باعتبارها قضية عدالة وشرعية قبل ان تكون ملف سيادة، مرافعة بلغة اوروبية هادئة ولكن حاسمة، تضع الحقيقة المغربية في سياقها الدولي دون ان تفقد بعدها الأخلاقي. اما الخبير الدولي جان ماري هيدت فقد إستحضر التاريخ كمرآة كاشفة، مذكرا بان الحقائق مثل الصحراء قد تغطيها رياح السياسة لكنها لا تزول، بل تعود لتفرض نفسها حين ينضج الوعي الدولي.
وفي مداخلة جمعت بين العلم والانتماء، أعاد إبراهيم اوشلح للصحراء بعدها الأرضي العميق، صحراء ليست فراغا جغرافيا بل ذاكرة جيولوجية حية، ارض لها إسمها ونبضها وإمتدادها الطبيعي داخل الجسد المغربي. بينما قدم المؤرخ والكاتب جوليان ميلغي قراءة اوروبية متقدمة اكد فيها ان الصحراء المغربية لم تعد اسيرة الروايات الباردة، بل اصبحت حقيقة سياسية تتقدم بثبات داخل دوائر القرار والراي العام الدولي.
ما جعل هذه الندوة إستثنائية ليس فقط ثراء المحاضرات، بل تلك الروح الخفية التي سكنت القاعة، روح وطنية لا تصرخ ولا تزايد، لكنها تشع بهدوء يشبه ضياء الصحراء عند الغروب. كانت الصحراء حاضرة كفكرة جامعة، تتجاوز الأشخاص والانتماءات، وتعيد جمع المختلفين تحت معنى واحد، معنى الوطن حين يصبح اكبر من الحسابات الضيقة، واعرض من الخرائط المرسومة بالحبر.
في تلك اللحظة بدا واضحا ان الصحراء ليست جنوبا فقط، بل قلبا مفتوحا، وان الوطنية ليست خطابا جاهزا بل تجربة تعاش، وان المغرب وهو يطرح مشروع الحكم الذاتي انما يعرض على العالم نموذجا للتصالح مع التاريخ وبناء المستقبل دون قطيعة مع الجذور. هكذا غادرت الندوة قاعتها، لكن اثرها بقي معلقا في الذاكرة، مثل حبة رمل صغيرة تختزن في صمتها حكاية وطن كامل، وطن لا يقاس بالمسافة بل بالصدق، ولا يثبت بالصوت العالي بل بعمق الإيمان.