عبد الحي السملالي: بين حفظ المنهج وتحول المعرفة.. مشروع أحمد عبادي في زمن تجاوز عصر قواعد البيانات الذكية

عبد الحي السملالي: بين حفظ المنهج وتحول المعرفة.. مشروع أحمد عبادي في زمن تجاوز عصر قواعد البيانات الذكية عبد الحي السملالي
لم يعد تجديد الفكر الديني اليوم مسألة خلافات فقهية أو اختلافات مدرسية، بل صار سؤالاً معرفياً عميقاً يتعلق بطبيعة الأدوات التي نشتغل بها، وبالعصر الذي ننتمي إليه فعلاً، لا ذاك الذي ما زلنا نتصرف وكأننا نعيش فيه. ففي زمن دخل فيه العالم مرحلة الذكاءات الاصطناعية التوليدية، وأعاد تعريف إنتاج المعرفة من جذوره، لم يعد كافياً أن نتحدث عن “ضبط المنهج” دون مساءلة المنطق المعرفي الذي يتحكم في هذا الضبط.
في هذا السياق، يندرج مشروع “دليل المنهجية الفقهية” الذي تشرف عليه الرابطة المحمدية للعلماء بقيادة أمينها العام الدكتور أحمد عبادي. وهو مشروع يعكس حرصاً مؤسساتياً على حماية المرجعية الدينية، ومواجهة مظاهر التسيب الفقهي والقراءات السطحية للنصوص. ولا شك أن هذا الحرص مفهوم في سياقه، ويستجيب لهاجس الاستقرار الديني والمعرفي.
غير أن الإشكال لا يكمن في النوايا، بل في العصر المعرفي الذي ينتمي إليه المشروع. فالمفارقة الصارخة هي أن هذا الجهد المؤسسي الكبير ما يزال يتحرك بعقلية تشكلت في زمن الفهارس الورقية، والملفات الصفراء، والمنهج الخطي، بينما العالم من حولنا تجاوز منذ زمن مرحلة قواعد البيانات الذكية (les bases de données intelligentes)، ودخل مرحلة أعمق وأكثر جذرية: مرحلة الذكاءات الاصطناعية التي لا تخزن المعرفة فقط، بل تعيد إنتاجها وتحليلها وبناءها.
العالم اليوم لا يكتفي بترتيب النصوص، بل يبني شبكات دلالية تربط آلاف المؤلفات والمفاهيم والسياقات في لحظة واحدة. النص لم يعد وحدة مغلقة، بل أصبح عقدة داخل شبكة معرفية واسعة، قابلة للتفكيك وإعادة التركيب. أما مشاريعنا، فما تزال — في كثير من جوانبها — تراهن على طباعة “دلائل” و“معاجم” وتقديمها بوصفها إنجازاً منهجياً، في زمن لم تعد فيه الورقة مركز المعرفة ولا الكتاب هو بوابتها الوحيدة.
لقد كان منطق الجمع والتصنيف والفهرسة ضرورياً في مراحل سابقة من تاريخ المعرفة الإسلامية، حين كانت الندرة هي التحدي الأكبر. أما اليوم، فنحن نعيش زمن الفيض المعرفي، حيث التحدي لم يعد في الوصول إلى النص، بل في فهم علاقاته، وتحولاته، وسياقاته المتشابكة. وهنا يظهر العطب البنيوي: مشاريع الضبط المنهجي ما تزال تعالج أزمة القرن الحادي والعشرين بأدوات صممت لمنتصف القرن العشرين.
الذكاء الاصطناعي لا يعمل بمنطق “الدليل”، بل بمنطق النموذج. لا يسأل: أين ورد هذا القول؟ بل: كيف تشكل هذا المفهوم؟ كيف تغير عبر الزمن؟ ما علاقته بسياقات أخرى سياسية، اجتماعية، لغوية؟ وهذا الفارق ليس تقنياً فقط، بل إبستمولوجي بامتياز.
في المقابل، يظل جزء كبير من الجهد المؤسسي الديني مشغولاً بإعادة ترتيب الماضي بالأدوات نفسها التي أسهمت، بشكل غير مباشر، في إنتاج أزمات الحاضر: مركزية الحفظ، ضعف التحليل، غياب الرؤية الشبكية، وتهميش الطاقات الشابة القادرة على الاشتغال بلغات العصر وأدواته.
وهنا لا بد من قول الحقيقة بهدوء ووضوح:
لا يمكن مواجهة تحديات اليوم بعقلية الأمس.
ولا يمكن بناء مستقبل معرفي رصين بمؤسسات ما تزال متأخرة بعشرات السنين عن زمنها الفعلي، مهما بلغت ميزانياتها أو حسنت نواياها.
إن أزمة الفقه المعاصر ليست أزمة انضباط فقط، بل أزمة تأخر زمني معرفي. فالمتلقي اليوم يعيش داخل فضاء رقمي مفتوح، يتفاعل مع النصوص عبر محركات البحث، والمنصات، والخوارزميات، لا عبر الرفوف والمجلدات. وأي مشروع لا يستحضر هذا التحول محكوم عليه بالعزلة، لا بالتأثير.
ولا يعني هذا الدعوة إلى القطيعة مع المؤسسات أو التقليل من قيمة الجهود القائمة، بل يعني المطالبة بتطويرها جذرياً. فالدور الذي يقوم به الدكتور أحمد عبادي في الدفاع عن المنهج يمكن أن يشكل رافعة حقيقية لو أُعيد توجيهه نحو الانتقال من منطق الأرشيف إلى منطق الشبكة، ومن منطق التخزين إلى منطق التحليل، ومن منطق الحراسة إلى منطق الإنتاج المعرفي.
التراث اليوم لا يحتاج إلى مزيد من “الحراس”، بل إلى مهندسي معرفة قادرين على تشغيله داخل أدوات العصر، وإدماج الذكاء الاصطناعي في قراءته، لا بوصفه تهديداً، بل فرصة تاريخية لفهم أعمق وأكثر تركيباً.
إن الرهان الحقيقي لم يعد هو حماية الماضي من الضياع، بل إنقاذه من التحنيط. فالمستقبل لا ينتظر من يُحسن ترتيب الأرشيف، بل من يملك الجرأة على الاعتراف بأن الزمن تغير، وأن المعرفة تغيرت، وأن من لا يلتحق بعصره، مهما علا مقامه، سيجد نفسه خارج تأثيره.