خالد الادريسي: العشاء الأخير للمحاماة.. حين تُنتزع الاستقلالية من داخل المائدة

خالد الادريسي: العشاء الأخير للمحاماة.. حين تُنتزع الاستقلالية من داخل المائدة الدكتور خالد الإدريسي، عضو مجلس هيئة المحامين بالرباط
قال الدكتور خالد الإدريسي، عضو مجلس هيئة المحامين بالرباط، أن أخطر تهديد لاستقلال المهنة لا يأتي من الخارج، بل من داخل مؤسساتها نفسها، داعيا في نقال تحليلي خص به جريدة "أنفاس بريس"، إلى "انتفاضة مهنية واعية ومسؤولة" تعيد القرار إلى مجالس الهيئات بوصفها صاحبة الاختصاص الأصيل، وتمنع تحويل جمعية هيئات المحامين إلى سلطة تقريرية تتجاوز صلاحياتها، مؤكداً أن هذه اللحظة تمثل "الفرصة الأخيرة لحماية استقلال المهنة من داخلها قبل فوات الأوان".
 

يقدم مشهد العشاء الأخير نموذجا بالغ الدقة لانهيار مبدئي الاستقلال والحصانة من داخل الدائرة المفترض فيها الحماية. فقد اجتمع السيد المسيح مع من كانوا مؤتمنين على الرسالة، في إطار علاقة قائمة على الثقة والمسؤولية المشتركة، غير أن هذه الثقة لم تصمد أمام منطق المصلحة والخضوع. لم يتم تسليمه بفعل قوة خارجية مباشرة، بل عبر استغلال القرب، وانتهاك واجب الحماية، والتخلي عن مقتضيات الوفاء التي تشكل جوهر أي حصانة حقيقية.
 
وهكذا تحول الصمت إلى مشاركة، والتبرير إلى غطاء، وانتهى الأمر بتجريد صاحب الرسالة من أي حماية، وتسليمه لسلطة الإعدام والصلب. ويكشف هذا النموذج أن أخطر ما يهدد الاستقلال ليس الهجوم الخارجي، بل التفريط الداخلي. حين يتخلى من يفترض فيهم ضمان الحصانة عن دورهم، أو يقايضونها باسم الواقعية أو الامتثال، فيتحول الاستقلال من مبدأ مؤسّس إلى وضع قابل للإلغاء.

وإذا كان العشاء الأخير قد كشف تاريخيا أن السقوط لا يبدأ من ساحة المواجهة، بل من داخل الدائرة المفترض فيها الحماية، فإن ما جرى في تدبير مسودة مشروع قانون مهنة المحاماة يعيد إنتاج المنطق ذاته، ولكن بأدوات مؤسساتية معاصرة. ففي ذلك المشهد الرمزي، لم يسلم السيد المسيح من طرف خصومه المباشرين، بل من داخل مائدته، عبر استغلال القرب والثقة والمعرفة الداخلية بمكامن القوة والضعف. وبالمنطق نفسه، اضطلع الفاعل في السياق المهني بدور التسليم المباشر، حين جرى توظيف الموقع التمثيلي لا بوصفه أمانة للدفاع عن استقلال المهنة، بل كقناة تمرير لمقتضيات تشريعية تمس ثوابتها الجوهرية، وفي مقدمتها الاستقلال، والحصانة، والاحتكار المشروع. لم يتم ذلك عبر مواجهة علنية أو نقاش مفتوح داخل الجسم المهني، بل من خلال قنوات مغلقة، وتفاهمات غير معلنة، ومسارات تفاوضية ليلية، تشبه في رمزيتها تلك اللحظة التي انكسر فيها واجب الحماية قبل أن يقع الفعل النهائي. وهكذا، كما في العشاء الأخير، لم يكن الفعل حادا أو صاخبا، بل هادئًا، محسوبا، ومتدرجا، حيث تحول القرب من موقع الحراسة إلى أداة اختراق، وأُعيد تعريف "التمثيل" من وظيفة صيانة إلى وظيفة تسليم، فكان التفريط الداخلي أخطر أثرا من أي ضغط خارجي مباشر.

حين يصرح رئيس جمعية هيئات المحامين، في لقاء رسمي لمجلس الجمعية بمراكش، بأن مسودة مشروع قانون المهنة ستحال على المجالس وعلى عموم المحامين في إطار مقاربة تشاركية حقيقية، ثم يعود بعد أسبوع واحد فقط، وفي مؤتمر طنجة، ليعلن دون مواربة عن حصول توافق مع وزير العدل ويدعو هذا الأخير صراحة إلى تسريع المسطرة التشريعية، فإن الأمر يتجاوز بكثير مجرد اختلاف في التقدير أو تطور في المواقف. نحن أمام تصريح غير مطابق للحقيقة أدّى إلى تضليل الجسم المهني واستدراجه إلى الاطمئنان الزائف، قبل الانقلاب على الالتزام المعلن. وهذا السلوك، في تكييفه المهني والمؤسساتي، يرقى إلى كذب تمثيلي وتدليس معنوي، لأن الوعد بالمشاركة لم يكن سوى وسيلة لامتصاص الاعتراض وتهيئة المناخ لتمرير اختيارات مسبقة. إن تقديم معطيات يعلم صاحبها عدم جديتها، ثم بناء مسار تشريعي مناقض لها، يشكل إخلالا جسيما بواجب الأمانة التمثيلية، ويفرغ مبدأ التشاركية من أي مضمون فعلي، ليحوله إلى مجرد أداة احتيالية تُستعمل عند الحاجة، ثم يتخلى عنها فور تأمين التوافق مع السلطة التنفيذية.

ويبلغ هذا الإخلال درجة أخطر حين يستكمل بمناقشة ما سُمِّي زورًا "المسودة" داخل مكتب الجمعية في ظرف زمني لا يتجاوز ثلاث ساعات، وبوسائط تقنية اختزالية، لنص تشريعي يتجاوز مائة وعشرين مادة، يفترض فيه أن يؤطر مستقبل أجيال من المحامين، وأن يرسم معالم مهنة لا تعيش إلا في فضاء الحرية والاستقلال. إن مناقشة بهذا الشكل، زمنا ومنهجا، لا يمكن تكييفها إلا باعتبارها إجراء صوريا يفتقد لكل شروط التداول الجاد، ويشكل استخفافا تشريعيا صارخا بمصير المهنة وبعقول المنتسبين إليها. ذلك أن مادة واحدة من هذا القانون، لما تحمله من آثار عميقة على الاستقلال، أو الحصانة، أو الولوج، أو الاحتكار، تحتاج إلى أيام دراسية كاملة، ونقاشات معمقة، واستحضار دقيق للاجتهاد القضائي والتجارب المقارنة، لا إلى تمرير استعجالي يفرغ النقاش من مضمونه. وعليه، فإن ما جرى لا يقاس بمنطق السرعة ولا بذرائع الاستعجال، بل يقاس بميزان المسؤولية، ومسؤولية التفريط، حين تصدر باسم التمثيل وتمارس تحت شعار الإصلاح، لا تقل جسامة عن مسؤولية الفعل المباشر، لأن أخطر أشكال الغدر هو ذاك الذي يرتكب بهدوء، ومن داخل المؤسسات، وباسم من يفترض فيهم واجب الحماية لا التسليم.

إن ما تسرب من مقتضيات مسودة مشروع قانون مهنة المحاماة لا يمكن التعامل معه باعتباره مجرد اختلاف في الرؤى أو اجتهادا تشريعيا قابلا للنقاش، بل يشكل، في جوهره، بداية النهاية لشيء اسمه المحاماة بوصفها مهنة حرة، وللحق في الدفاع، ولمبدأ المحاكمة العادلة. فهذه التسريبات تضرب في العمق ثوابت المهنة المؤسسة، وفي مقدمتها الاستقلالية، والحصانة، والاحتكار المشروع، وتفتح الباب لتحويل المحامي من فاعل مستقل داخل منظومة العدالة إلى طرف هش محاصر. كيف سمح، باسم الإصلاح، بأن تستحوذ النيابة العامة على اختصاصات أصيلة كانت تشكل صمام أمان بيد النقباء؟ وكيف قبل أن يوضع المحامي بين سندان النيابة العامة، ومطرقة القضاء، وضغط المشتكين، دون أي درع مهني يحميه أثناء أدائه لمهامه؟ بل كيف يُراد تحويل التأديب من آلية تقويم وضبط مهني إلى أداة ترهيب وتخويف، الغاية منها كبح الجرأة والشجاعة في الدفاع، وتجفيف منابع المرافعة الحرة؟ لقد جرى تقزيم الحصانة إلى حد تفريغها من معناها، والانتقاص من المهام والاختصاصات التاريخية للمحامي، وفتح المجال أمام إشراف مباشر ومؤثر لوزارة العدل على المهنة، فرديا ومؤسساتيا، في مساس صريح بمبدأ الاستقلال. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل امتد إلى إحداث بنيات جديدة تسحب لها اختصاصات التأديب من مجالس الهيئات، لتمارس رأسا خارجها، في انقلاب صامت على التمثيل المهني، وعلى فلسفة التنظيم الذاتي التي قامت عليها المهنة. إن تراكم هذه المقتضيات لا يشي باصلاح، بل بمشروع إخضاع متكامل، يفكك المهنة قطعة قطعة، ويحول الدفاع من سلطة أخلاقية وقانونية إلى وظيفة خاضعة، مراقبة، ومعرضة للعقاب كلما تجاوزت الخطوط المرسومة لها سلفا.

ما تزال الفرصة قائمة من أجل انتفاضة مهنية واعية ومسؤولة، داخل الإطار الصحيح، أي داخل المجالس بوصفها صاحبة الاختصاص الأصيل في اتخاذ القرارات المرتبطة بتدبير المهنة وتنظيمها، لا داخل الجمعية التي يظل دورها، قانونا وواقعا، تنسيقيا لا تقريريا. وفي هذا السياق، يسجل لمجلس هيئة المحامين بالدار البيضاء موقفه المؤسسي الواضح، من خلال مقرره الأخير الذي رفض مسودة مشروع القانون، وكرس حقيقة جوهرية مفادها أن القرار المهني لا يتخذ إلا من داخل المجالس، باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للإرادة الجماعية للمحامين. إن احترام رمزية جمعية هيئات المحامين بالمغرب وتاريخها لا يعني القبول بتحويلها إلى سلطة تقريرية تتجاوز حدود اختصاصها القانوني. فهي جمعية مؤسسة في إطار ظهير الحريات العامة، ولا تملك، لا من حيث القانون ولا من حيث التفويض، صلاحية اتخاذ قرارات نيابة عن أزيد من عشرين ألف محام، خاصة في غياب أي وكالة صريحة أو تفويض صادر عن المجالس. فكيف يتصور أن تفرض قرارات مصيرية، بل وسرية احيانا، محكومة باعتبارات شخصية أو فئوية، على مهنة بكاملها، دون نقاش، ودون مساءلة، ودون شرعية تمثيلية؟
 
إننا اليوم أمام الفرصة الأخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. فرصة لحماية "المسيح" المهني من غدر بعض أصحابه ومقربيه، لا من خصومه المعلنين. فرصة للحفاظ على مكتسبات مهنة المحاماة التي لم تكن يوما مهنة خاضعة، بل كانت وستظل حرة، مستقلة، شامخة، وأبية عن التطويع والتدجين. فإما أن تنتصر المجالس لاختصاصها، وتنتصر المهنة لذاتها، أو يسجل على هذا الجيل أنه صمت في لحظة كان فيها الصمت تفريطا، لا حيادا.