خالد أخازي: تقرير ل" اليونسكو " يصفع برادة.. المدير تحول إلى كاتب إداري...

خالد أخازي: تقرير ل" اليونسكو " يصفع برادة.. المدير تحول إلى كاتب إداري... خالد أخازي
سأضع القراء في مشهد بيداغوجي، مشهد وضعية أسقطه بروح المدرس الذي ما زال يسكن في روحي:
ففي أحد الفصول الدراسية المهترئة بضاحية شعبية من ضواحي الدار البيضاء، يجلس يوسف، الولد البالغ من العمر عشر سنوات، أمام ورقة امتحان نهاية المرحلة الابتدائية. عيناه الواسعتان تترقبان الحروف العربية التي تتراقص أمامه ككائنات غريبة من عالم آخر، غير مألوفة رغم ست سنوات كاملة قضاها في مقاعد المدرسة. الأرقام تتشابك في شكل طلاسم لا تحل، والسؤال الأول "اقرأ النص التالي وأجب عن الأسئلة" يبقى لغزا محيرا. يمسك يوسف بالقلم بيد مرتجفة، يرسم خطوطا عشوائية، ثم يسقط رأسه على الطاولة في صمت ثقيل يملأ الفصل...
هذه اللحظة ليست فشلا فرديا ليوسف، الابن الوحيد لأم مطلقة تعمل خادمة في منزل راق، وأب يقود سيارة أجرة من الفجر إلى المغرب. إنها إخفاق كامل لمؤسسة أنشئت أساسا لتعليمه ولتكريس حقه في المعرفة. تختصر فيها أزمة وطنية هائلة، يجسدها التناقض الصارخ بين تقرير دولي يكشف فجيعتها وبياناته القاسية، وخطاب رسمي يسعى جاهدا لتجميلها بألوان الإنجازات والوعود...
ولأننا قزمنا التشخيص في تعابير تقنية رنانة، وتمرير تقويمات تقارب المهارات والمعارف، لا أحد تساءل هل المدرسة الرائدة قادرة على تشخيص حالة تعثر تتجاوز الفعل الديداكتيكي التراكمي إلى سؤال اضطرابات التعلم؟ فكثير من أوجه التعثر خارج بيداغوجية، تهرب منها المدرسة الرائدة، ويوسف يحتاج إلى مقاربة أخرى ليست في أجندة مدرسة برادة.
وفي هذا السياق نستحضر تقرير منظمة اليونسكو الذي عممته المنظمة بعنوان "تسليط الضوء 2025 حول إتمام التعليم الأساس والتعلم التأسيسي في إفريقيا"، الصادر في أواخر 2025.
لم يكن التقرير مجرد وثيقة تقنية مليئة بجداول وبيانات، إنه صفعة مدوية للخطاب الرسمي، ولبرادة العاشق حد الهيام للتقارير الدولية ولو بتدليسها. التقرير قسا على برادة ورجاله بأرقام باردة لا ترحم، فهو يكشف أن عددا كبيرا من التلاميذ المغاربة لا يكتسبون المهارات الأساسية في القراءة والرياضيات بنهاية المرحلة الابتدائية حرفيا. يشير إلى أن أكثر من 60% من التلاميذ في بعض الجهات لا يصلون إلى الحد الأدنى من الكفايات الأساسية، بناء على اختبارات PISA-like ودراسات محلية مدمجة. هذا العجز ليس عرضيا، بل خلل هيكلي، مرتبط بانخفاض معدلات التحقق الكامل، حيث يصل الهدر المدرسي إلى 15–20% في المناطق الريفية، وفقا للبيانات نفسها.
أمام هذا الخلل، يقف خطاب الوزارة الوصية على التعليم، ممثلا في تصريحات الوزير البرلماني لحسن برادة أمام البرلمان في جلسات نونبر 2025، ليتحدث عن نسب تمدرس تقارب 99.5%، وانخفاض "معتدل" في الهدر إلى 8%، وميزانيات ضخمة بلغت 86 مليار درهم في 2025، وآلاف الأقسام المجهزة، ومبادرات "مدارس الريادة" و"الرقمنة الشاملة" كدليل على "ريادة مغربية في الإصلاح التربوي".
لغة مثيرة، نعم، صانعة للأمل. خطاب إيجابي يصرف في بيانات صحفية وبرامج سمعية بصرية، يخلق وهما بأن الأزمة تحت السيطرة، بينما أمثال يوسف وأقرانه يدفعون الثمن اليومي، لأن لا أحد يطرح السؤال التشخيصي الشامل ضمن مقاربة تقويمية للتعثر، تفترض العائق اللاصفي: الفسيولوجي، والسوسيولوجي، والسيكولوجي. هل مدرسة الريادة تقارب قضايا اضطرابات التعلم؟ لا أظن، فبيروقراطية الفعل التربوي ضيقت مجال السؤال التقويمي واحتفظت بمخرجات كمية تقنية.
هذه المقالة لا تقف عند وصف التناقض، بل تحفر تحته، لتكشف كيف تحولت أزمة تعليمية مأساوية إلى أزمة خطابية أكبر، حيث أصبح الفشل التربوي يدبر بواسطة آلة خطابية جموح لإنتاج الوهم وأسطرة مدرسة الريادة. سنشرح الخطاب الرسمي كما يبني هندسة الوهم، نستعرض صدمة التقرير كتشخيص للعطب الكبير، نفحص فجوة التنفيذ بين أروقة الوزارة وجدران الفصل، ونغوص في الأبعاد الاجتماعية والسياسية للخذلان التربوي، لنصل إلى مكاشفة لمصالحة حقيقية مع الفعل التربوي المبدع والشامل الرؤية.
في نهاية المطاف، هذه ليست قصة يوسف وحده، الذي يعاني من اضطرابات التعلم، وهي وجه آخر من أسباب التعثر لن تجيب عنه مدرسة الريادة. إنها نعي لزمن تربوي دفن التراكم، وضيق الإبداع، ونمط المقاربة الديداكتيكية، وصنع خرائط تدريسية لا مكان فيها لسؤال الجودة خارج الأرقام، مما أنتج مفارقة بين مؤشرات الواقع ومؤشرات لجان التحقق الميداني المركزية.
في أعماق هذا التناقض، يبرز الخطاب الرسمي كمهندس رئيس للوهم، يحول الكارثة الإنسانية إلى مشكلة إدارية قابلة للحل عبر اجتماعات لا تنتهي ومشاريع على الورق. خذ لغة الأرقام المجردة مثالا: يتحدث برادة عن "تحقيق نسبة تمدرس عالمية نادرة تصل إلى 99.5%"، وعن "انخفاض الهدر المدرسي بنقطتين مئويتين"، ويتشدق بـ"تجهيز 4500 قسم جديد"، ويفتخر بميزانية "استثنائية بلغت 86 مليار درهم".
هذه الأرقام، رغم صحتها الشكلية في بعض الحالات، تشكل جدارا يحجب السؤال المركزي: ماذا يتعلم الطفل فعليا داخل هذه المدارس؟ يتحول يوسف إلى "نسبة متأثرة بنسبة 12%"، والمدرسة الفاشلة إلى "مؤسسة تحتاج إلى دعم إضافي". تختزل إنسانيته إلى نقطة في منحنى بياني. هذه عملية تجريد متعمدة تخفف العبء الأخلاقي عن المسؤولين، وتحول الضحية إلى مؤشر.
ليست هذه الاستراتيجية عفوية، بل مبنية على منطق بيروقراطي يقيس النجاح بالمؤشرات. في المغرب، أصبح تحسين نسبة التمدرس هدفا في حد ذاته، بغض النظر عن مضمون التعلم. ينتصر الخطاب للكم على الكيف، ويبني مدرسة افتراضية على الورق، بينما تتداعى مدرسة الواقع بجدران باردة وغياب الفعالية الابتكارية.
ثم يأتي الانزياح الخطابي الأكثر إدانة، حين ينزلق المسؤول من لغة السياسات العمومية إلى لغة النصيحة الفردية. حين يقول برادة: "والدي أرسلني إلى بلاد بعيدة لأتعلم في مدرسة جيدة"، فهو يقر ضمنيا بفشل مدرسة القرب وتكافؤ الفرص، ويحمل الأسر الفقيرة عبء تعويض عجز الدولة، مكرسا نظاما تعليميا طبقيا بمسارين: تعليم جيد لمن يملك الوسيلة، وتعليم منقوص لمن لا يملك سوى مدرسة قريبة فاشلة.
تبلغ أسطورة "مدارس الريادة" ذروتها حين تقدم كحل شامل، بينما هي في الواقع اعتراف رسمي بالعجز عن إصلاح المنظومة برمتها. اختيار أقل من 0.5% من المؤسسات وتغدق عليها الموارد لصناعة واجهة نجاح هو تحويل للفشل المنظومي إلى إنجاز جزئي معزول، يشرعن إقصاء الأغلبية.
ما يحاول الخطاب إخفاءه، يكشفه تقرير اليونسكو بلا رحمة: 58% من التلاميذ في نهاية الابتدائي لا يجيدون قراءة نص بسيط أو حل مسألة أولية. هذا حكم قاس على جوهر المدرسة. الطفل الذي لا يمتلك المهارات الأساس يبنى مستقبله على رمل.
يربط التقرير هذا الانهيار بالهدر المدرسي، حيث تتحول المدرسة إلى آلة إنتاج تهميش، وتنتج أمية وظيفية مقنعة بشهادات فارغة. إنها خذلان وطني للطفولة.
ويضع التقرير يده أيضا على إشكالية القيادة المدرسية، حيث يقضي المديرون 70% من وقتهم في المهام الإدارية، محولين من قادة تربويين إلى موظفين بيروقراطيين، خنقا للقلب التربوي للمدرسة.
أما الرقمنة، التي يقدمها الخطاب كتعويذة، فيحذر التقرير من مخاطرها إن لم تؤسس بيداغوجيا. وضع جهاز لوحي في يد طفل لا يقرأ هو تعميق للعجز، لا حلا له.
ثم تأتي العزلة القروية، حيث يكرس "التعميم" تسجيلا إداريا دون جودة، منتجا تمييزا جغرافيا فادحا، لا يداوى بخطاب الإنجاز.
في قلب الأزمة فجوة تنفيذ صارخة: إطار قانوني متقدم، ووثائق استراتيجية أنيقة، لكن واقع ميداني مكتظ، ضعيف التكوين، فقير الدعم. شرعية ورقية بدل شرعية تربوية.
المسافة بين تقرير اليونسكو والخطاب الرسمي ليست تقنية، بل أخلاقية. إنها سؤال مصداقية، وسؤال شجاعة. المستقبل في عيون أمثال يوسف، لا في جداول برادة. الوهم الحقيقي ليس الفشل، بل أسطرة الفشل وتسويقه كنجاح.
خالد أخازي، كاتب وإعلامي