حميدي عبد الرفيع: حين تتحول الكرة إلى غطاء… وتغيب الدولة عن حياتنا اليومية

حميدي عبد الرفيع: حين تتحول الكرة إلى غطاء… وتغيب الدولة عن حياتنا اليومية حميدي عبد الرفيع
في كل مرة يحقق فيها المنتخب فوزًا، تتوقف الأسئلة الثقيلة قليلًا، كأن الذاكرة الجماعية تأخذ إجازة قصيرة من الألم ننسى، ولو مؤقتًا، سقوط عمارتين في فاس بما حمله من موت صامت، ونؤجل الحزن على ضحايا فيضانات آسفي، ونخفض نبرة الغضب، ثم نرفع علمًا، نهتف، ونعود إلى بيوتنا كما لو أن الفرح قادر على تعويض الأرواح، أو على ترميم ما تهدّم في العمق..
 
ليست المشكلة في كرة القدم، ولا في الفرح الجماعي الذي يحتاجه مجتمع مُنهك من التوتر والخذلان، بل في الوظيفة التي أُسندت لهذا الفرح أن يتحول إلى بديل مؤقت عن السياسة، وغطاء رمزي عن اختلالات بنيوية، ومهدئ نفسي لأسئلة موجعة لا تجد من يملك شجاعة طرحها أو تحمل تبعات الإجابة عنها هكذا يصبح الانتصار الرياضي لحظة تعليق للمساءلة، لا مناسبة لتعميقها، ويغدو الفرح حقًا مشروعًا، لكنه محمّل بدور لا ينبغي له أن يؤديه أن يُنسي بدل أن يُنبه، وأن يُهدئ بدل أن يُصلح...
لماذا نرى القوة الناعمة في الكرة ولا نراها في المدرسة..
لأن المدرسة الجيدة لا تصنع فرحًا لحظيًا، بل تُنتج وعيًا متراكما والوعي في منطق السلطة والسياسة، كلفة ثقيلة لا تُدفع طوعا فالتعليم، حين يُراد له أن يكون قوة ناعمة حقيقية، لا يخلق جمهورًا منبهرًا، بل مواطنًا ناقدًا، يسأل بلا تردد من المسؤول؟ أين صُرفت الأموال؟ لماذا انهارت العمارة؟ ولماذا غرقت المدينة؟ أسئلة لا تُريح أحدًا، لأنها تمس جوهر الاختلال لا مظاهره
ولهذا تحديدًا، لا يُستثمر في التعليم كرهان رمزي جامع، ولا يُقدَّم كعنوان للسيادة أو الفخر الوطني، بل يُدار كملف تقني بارد، مؤجل دائمًا، قابل للإخفاق دون مساءلة، لأن نتائجه لا تُقاس في لحظة، ولا تُختزل في صورة، ولا تُسوَّق كإنجاز سريع ...ولماذا لا تكون الصحة عنوانًا للسيادة.
 
لا توجد قوة ناعمة أصدق من مستشفى يحترم الإنسان، ولا أعمق من دولة تُشعرك بالأمان حين تمرض، بلدٌ يُطمئن مواطنيه في لحظة الضعف أقوى معنويًا وأرسخ صورةً من بلدٍ يفوز بكأس..
 
غير أن الصحة، بخلاف الإنجازات الرمزية السهلة تكشف الحقيقة بلا مساحيق تُعرّي الفوارق الاجتماعية،تفضح سوء التدبير والاختلالات البنيوية، وتضع الدولة وجهًا لوجه مع المواطن،في اختبار لا يقبل الخطابة ولا التأجيل ولهذا بالضبط ، تُترك الصحة في الهامش،لا لأنها أقل أهمية، بل لأنها أكثر إحراجًالأن الاستثمار فيها لا يصنع صورة سريعة، ولا يُنتج فرحًا جماعيًا، بل يفرض مسؤولية دائمة ومساءلة قاسية وهكذا تُضخ الموارد في الواجهة بينما يُترك الجسد الوطني يواجه أوجاعه بصمت الإدارة حيث تموت كل صورة جميلة..
 
يمكن لبلد أن ينجح في تنظيم بطولة كبرى، وأن يحصد الإشادة خارج حدوده، لكن إن خسر ثقة مواطنيه في إدارته، فقد خسر جوهر معركته دون ضجيج. فالإدارة ليست تفصيلاً إجرائيًا ولا هامشًا بيروقراطيًا، بل هي الامتحان اليومي للدولة، والمرآة التي تنعكس فيها حقيقة الشعارات وصدق السياسات.
 
في الإدارة يلتقي المواطن بالدولة وجهًا لوجه: إمّا كرامة تُعزّز الانتماء، أو إهانة تُراكم النفور. وحين تتحول الوثيقة إلى معركة، والخدمة العمومية إلى مسار عذاب، وتُختزل الحقوق في منّة، يصبح الحديث عن القوة الناعمة مجرّد تجميل قسري لواقع خشن، لأن دولة تعجز عن احترام مواطنيها في شبابيكها لا تستطيع إقناع العالم بصورة جميلة عنها كرة القدم القوة الناعمة الأقل كلفة.
 
لم يكن اختيار كرة القدم عبثيًا ولا بريئًا فقد وفّرت للدولة ما تبحث عنه أي قوة ناعمة سريعة نتائج فورية، إجماعًا عاطفيًا عابرًا للاختلافات، مردودية إعلامية عالية، ودون أدنى مقاومة اجتماعية كرة القدم لا تُطالب بإصلاحات، ولا تفتح ملفات فساد، ولا تُحرج السياسات العمومية إنها تمنح الفرح دون شروط، وتُنتج الالتفاف دون مساءلة ولهذا بدت القوة الناعمة الأسهل… لكنها في الوقت ذاته الأكثر هشاشة حين تُعزل عن بقية القطاعات الحيوية..
 
وهنا تتجلى المفارقة الخطيرة ننجح في ما يُنسينا المأساة، ونفشل في ما يمنع وقوعها نفرح في الملاعب، ونحزن في المقابر نحتفل بالصورة، ونتجاهل البنية وفي هذا الانزلاق يكمن الخطر الحقيقي أن يتحول الفرح الوطني إلى واجب صمت، وأن يُنظر إلى طرح الأسئلة بوصفه تشويشًا على اللحظة الإيجابية، بدل اعتباره شرطًا أخلاقيًا لبناء وطن لا يحتاج إلى الفرح كي ينسى، بل إلى عدالة كي يتعافى
 
الخلاصة لسنا ضد الكرة بل ضد اختزال الوطن فيها... لا نحتاج إلى ثورة كروية جديدة، بل إلى ثورة في معنى الدولة ثورة تعيد ترتيب الأولويات، وتعيد تعريف القوة والرمزية ليس بما يُفرح الجماهير لحظة، بل بما يحفظ الإنسان ويصونه يوميًا قوة الدولة لا تُقاس بعدد الألقاب أو الانتصارات الإعلامية، بل بعدد العمارات التي لم تنهار، وبعدد المدن التي لم تُغرق، وبعدد المواطنين الذين لا يعيشون في خوف من المرض، ولا من المدرسة، ولا من إدارة يفترض أن تخدمهم..
 
حين تصبح المدرسة قوة ناعمة، تُنتج وعيًا وشعورًا بالمسؤولية، ويصبح المستشفى مصدر طمأنينة حقيقية، وتحترم الإدارة كرامة المواطن في كل تعامل، عندها فقط تكون كرة القدم تتويجًا طبيعيًا للإنجاز الوطني، لا تعويضًا نفسيًا عن هشاشة يومية متجذرة..
 
أما أن نربح في الملعب ونخسر الإنسان خارجه، فذلك ليس قوة ناعمة، بل هشاشة محتفَل بها صورة براقة تُخفي أزمة حقيقية في صميم الدولة ومؤسساتها، وتحوّل الفرح الجماهيري إلى غشاء تخفي وراءه الإهمال والفشل البنيوي هذه الهشاشة هي التحدي الحقيقي، وليس عدد البطولات أو الهتافات..
 
حميدي عبد الرفيع،  باحث في قضايا الشباب والسياسات العمومية