وأنا أحرر هذه المقالة، لا أعرف كيف استحضرت المثل المغربي " طاحت الصمعة علقو الحجام"...
نعم.... صمعة وسمعة التعليم انهارت.... لأن مهندسها خطط لها فوق رمال متحركة، وهندس لها على أرض غير الجغرافيا المغربية...
مناسبة هذا " التعلاق " محاكمة المديرين الإقليميين في أسوء لقاء جعل منهم كبش الفداء المفضل في مسرحية إصلاح التعليم
المشهد المخزي والمؤلم يختزل كوميديا سوداء عن الإصلاح التربوي المغربي، حيث تفيد المصادر أن خونا محمد سعد برادة التقى بمديريه الإقليميين "الراسبين" في امتحان الريادة...
كان الاجتماع في "باب الرواح"، بلا روح، غير " العين الحمراء"...اسم على مسمى لمن يبحثون " عتاق الروح" في لقاء طبعه الحس المقاولاتي لا الإنساني التشاركي في قطاع لا ينتج الحلوى ولا دوليبران... بل أن يبني الإنسان... والتباينات في الجودة والأداء والمخرجات من صميم العملية التعليمية التعلمية... لأن سي برادة... لا يعلم أن السياقات السوسيو اقتصادية والخصوصيات الثقافية قد تكون مسؤولة عن فهم وتأويل جيد وعقلاني لجغرافيا الريادة، بأضوائها المختلفة... فالمؤشر... على النجاح لا يختزل في مهمة خارجية تسقط السياق والمنظومة في شموليتها... قد يكون الرمادي أكثر أملا من أخضر في سياق مجتمعي آخر...
بتقريع ووعيد... اشتغلت عقلية جنرالات الوزارة... وفق المصادر ، فإن برادة استدعى بشكل مستعجل هؤلاء المسؤولين الذين "احتلت مديرياتهم المراكز المتأخرة، بمؤشرات جد متدنية"، في جلسة وصفتها المصادر بـ"التقريعية"، صب خلالها الوزير "جام غضبه" على المديرين الذين اكتفوا بالصمت...
الصمت... أي كرسي هذا يلجم الحقيقة في حضرة العبث...؟
ذلك الصمت الذي يشبه صمت الضحية التي تعرف أنها تشارك في مسرحية مخرج فشلها مسبقا..
المفارقة العبقرية تكمن في الأرقام نفسها: كيف يصل التقييم الداخلي الذي ينجزه الأساتذة إلى 81.70% بينما التقييم الخارجي لنفس المؤسسات لا يتجاوز 48.72%؟ هذا الفارق الذي يفوق ثلاثين نقطة مئوية ليس خطأ حسابيا عابرا.. بل هو اللغة السرية للمنظومة: لغة "النفخ في الأرقام" التي أصبحت مهارة إدارية مطلوبة للبقاء. الجميع يمارسها من الأسفل إلى الأعلى: بعض المدرسين مضطرين لصياغة مخرجات وفق انتظارت رسمية، وبعض والمديريم يدبجون التقارير وفق هوى مرؤوسيهم، والمسؤولون في المركز يجمعون هذه الأرقام الوهمية ليطمئنوا إلى أن "المشروع يسير على الطريق الصحيح". ثم تأتي لحظة الحقيقة المزعجة فيظهر الفارق الهائل، وعوض محاسبة الثقافة التي أنتجت هذا التناقض، تحمل المسؤولية للمدير الإقليمي وكأنه اخترع هذه اللعبة الوهمية بمفرده...
ولعل أكثر ما يثير السخرية المرة هو الجغرافيا التي اختارها الفشل: خمس مديريات من أصل سبع في جهة الرباط سلا القنيطرة ... العاصمة الإدارية للبلاد ومركز صنع القرار والموارد...تقبع في "المنطقة الحمراء"... أي منطق يمكن أن يقبل أن يفشل المشروع التربوي الأهم في قلب العاصمة حيث تتركز الكفاءات والموارد والإشراف المباشر..
ثم تكون التفسيرات جاهزة دائماً: المديرون مقصرون...
ياك يا سي برادة... شوف وكان...
كأنما مشروع "الريادة" هذا طائر فريد سلمه الوزير للمديرين ليطيروا به في سماء الإصلاح، فقاموا هم بدل تحليقه بنتف ريشه وطبخه على نار الفشل...
والسؤال الذي يفرض نفسه: إذا كان المديرون في العاصمة بهذا المستوى من "الإخفاق" فكيف يكون حال نظرائهم في المناطق النائية والأرياف؟ لكن ربما تلك المناطق لا تحتسب في معادلة المحاسبة، فالفشل فيها متوقع ومقبول ضمنياً!
ويتواصل مسلسل المهزلة مع التهديد الرسمي بـ"حملة إعفاءات" مباشرة بعد الموسم الدراسي. كأنما تغيير وجوه المديرين سينبت فجأة مقاعد دراسية في الأقسام المكتظة، وسيحول الأساتذة غير المؤهلين إلى خبراء بيداغوجيين، وسيحل الكراسي محل الكفاءات...إنها فلسفة الإصلاح المقلوبة: عندما تتعطل السيارة، لا نصلح المحرك بل نغير السائق...
ونتناسى أن المشكلة قد تكون في تصميم السيارة نفسها، أو في نوعية الوقود، أو حتى في الطريق الوعر الذي لا تؤهله لسيارة "الريادة" الفارهة... الإعفاءات ستنتج وجوها جديدة لتمارس اللعبة القديمة نفسها، وستكون النتيجة مزيدا من التلميذات والتلاميذ الذين يغادرون المدرسة وهم غير متحكمين في أبسط التعلمات.
اللغة الرسمية تروي قصة "التقريع" و"الصمت" و"الإعفاءات المرتقبة"، لكن لغة الواقع المُر تصرخ بحقيقة أخرى: أكثر من 60% من تلاميذ مؤسسات الريادة في السلك الابتدائي غير متحكمين في التعلمات الأساس. هذه النسبة المرعبة ليست رقما عابرا في تقرير، بل هي كارثة تربوية تنتج جيلا قد يصل إلى نهاية مساره الدراسي وهو لا يتقن القراءة والكتابة والحساب. لكن بدلا من أن تتعامل الوزارة مع هذه الكارثة كقضية وطنية تستدعي حالة طوارئ تربوية، نراها تتعامل معها كـ"مشكلة إدارية" تحل بالتهديد بتغيير بعض المديرين.. كأنما المدير الإقليمي في الخميسات أو سيدي سليمان يمتلك عصا سحرية يمكن أن تحول التلاميذ غير القادرين على القراءة إلى عباقرة بين عشية وضحاها...
والعجيب أن مديرية سيدي سليمان - حسب المصادر - "ظلت للمرة الثانية على التوالي قابعة في المراكز المتأخرة". هذا يعني أن الفشل مستمر ومعروف، ومع ذلك لم يتم التحرك إلا عندما احتاج الوزير إلى "كباش فداء" يبررون فشل سياسة كاملة. السؤال المنطقي: إذا كانت هذه المديرية فاشلة لهذا الحد، لماذا بقي مديرها في منصبه حتى اليوم؟ ولماذا لا تعفى الوزارة نفسها من مشروع أثبت فشله مرتين متتاليتين؟ الجواب بسيط ومحزن: لأن في المنظومة الفاسدة دائما من هو أدنى يمكن تحميله الخطيئة، وتبقى القمة بمنأى عن المحاسبة.
الاجتماع في باب الرواح كان يمكن أن يكون فرصة تاريخية لو كان المقصد حقيقيا... أن يجلس برادة مع مديريه ليقول "أين الخلل؟ كيف نصلحه؟ ما الذي تحتاجونه؟". لكنه تحول إلى منصة اتهام أحادية الاتجاه، حيث يحاكم المسؤولون في المستوى المتوسط والأدنى بينما تبرأ ساحة المستوى الأعلى من أي تقصير. إنها "ريادة" غريبة: ريادة في تحويل الفشل الجماعي إلى إخفاق فردي، وريادة في تحويل الأزمة الهيكلية إلى أزمة أشخاص... ريادة في البحث عن مذنبين حيث لا يوجد إلا نظام معطل.
الأعطاب الخفية تطفو على السطح دون أن يعترف بها أحد: ثقافة الخوف التي تصنع مؤشرات مزيفة، والمركزية المفرطة التي تفرض القرار من الأعلى دون استشارة الميدان، والفساد الإداري الذي يجعل التعيينات في المناصب التربوية تخضع للولاءات وليس للكفاءات. من يدري فبعض المديرين الذين قرعوا اليوم ربما وصلوا إلى مناصبهم عبر آليات غير تربوية، فكيف نفسر أن من يختارهم لغير الكفاءة يحاسبهم اليوم على عدم وجودها؟ إنها دائرة مغلقة من الفشل المدببر: تختار الأشخاص المناسبين للفشل، ثم تفاجأ عندما يفشلون، ثم تعاقبهم لأنهم... فشلوا...
المشهد كله يلخص تراجيديا الإصلاح المغربي: شعارات كبرى، ومشاريع ضخمة، ومؤتمرات صحفية، ثم عندما تظهر النتائج الكارثية، نبحث عن كبش فداء. المديرون الإقليميون اليوم، المدرسون غدا.. ربما التلاميذ أنفسهم في اليوم التالي... الجميع مذنبون إلا المنظومة نفسها، إلا السياسات التي وضعت بمعزل عن الواقع، إلا القرارات التي تتخذ في مكاتب مكيفة بعيدا عن غبار الفصول الدراسية وحرارة الأقسام المكتظة.
إذا كانت "مدرسة الريادة" قد أنتجت هذه النتائج المخجلة في قلب العاصمة الإدارية، فربما حان الوقت لإعادة تسميتها إلى "مدرسة الريادة في الفشل"، أو ربما منح وسام "الريادة في إنتاج الأمية" للمسؤولين الكبار الذين صمموا هذا المشروع ووضعوا آليات تقييمه ثم فوجئوا بأنه... يفشل... الغريب أنهم لم يفوجؤوا بأنفسهم، بل فوجئوا بالمديرين الإقليميين... كأنما الجراح الذي أجرى عملية فاشلة يلوم الممرض لأن المريض لم يشفَ... والنتيجة تبقى دائما واحدة: مزيد من التلاميذ الضائعين في متاهة تعليم لا يعلم، وتلامذة يحملون شهادات لا تكافئ كفاءات، ومستقبل وطني يراهن على رهان خاسر في سوق التربية العالمية.
خالد أخازي، كاتب وإعلامي