في زمن تتناقص فيه الأرواح التي تمنح المعنى لبعض المؤسسات، يجيء خبر إنتخاب الأستاذ أحمد سكونتي عضوا في جهاز التقييم التابع لمنظمة اليونسكو، لا بوصفه حدثا إداريا عابرا، بل كعلامة ثقافية فارقة، وكإشارة عميقة إلى أن الثقافة متى وجدت من يصغي إلى أنفاسها تعرف طريقها إلى المنابر الكبرى.
ليست اليونسكو، في جوهرها، بناية في باريس ولا وثائق تتداول في لجان مغلقة؛ إنها فكرة، وضمير كوني، ورهان أخلاقي على أن التراث الإنساني، خصوصا غير المادي منه، لا يقاس بالأرقام، بل بقدرته على الاستمرار حيّا في الذاكرة، نابضا في الممارسة، ومفتوحا على المستقبل. ومن هنا، فإن السؤال الحقيقي لا يكون: من إنتخب؟ بل: هل ما تزال هذه المؤسسات قادرة على إستقبال مثقف حقيقي، لا خبير تقني فقط؟
يأتي أحمد سكونتي من تخوم هذا السؤال. أستاذ التعليم العالي بالمعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث، وباحث شغوف بما لا يرى بقدر ما يعاش: بالطقوس، بالأغاني، بالحِرف، وبالمعارف الصامتة التي تسكن الأيادي والوجوه واللهجات. في مساره الأكاديمي والبحثي، لم يكن التراث غير المادي مادة للعرض، بل كائنا هشّا يحتاج إلى رعاية، وإلى فهم يتجاوز الفولكلور نحو المعنى.
إن جهاز التقييم الحكومي للتراث الثقافي غير المادي باليونسكو - الذي يضم اثني عشر خبيرا - من مختلف جهات العالم، ويعنى بتقييم ترشيحات الدول لتسجيل عناصرها على لوائح التراث ليس فضاء للزينة الرمزية، بل مختبرا أخلاقيا دقيقا، توزن فيه الأسئلة قبل الأجوبة، وتختبر فيه العلاقة بين المحلي والكوني، بين الخصوصية والإنسانية المشتركة. في هذا المقام، يصبح وجود مثقف من طينة أحمد سكونتي ضرورة. لقد علّمتنا تجربة التراث غير المادي أن ما لا تحميه الجماعات يذبل، وما لا تفهمه السياسات يختفي. وهنا تتقاطع المعرفة الأكاديمية بالمسؤولية العمومية، ويتحوّل المثقف من شاهد إلى فاعل. أحمد سكونتي لا يحمل إلى اليونسكو ملفات فقط، بل يحمل أسئلة المغرب العميقة: كيف نصون ما نمارسه دون أن نحبسه؟ كيف نعرّف العالم بتراثنا دون أن نفرغه من روحه؟ وكيف نجعل من الثقافة جسرا للحوار لا سلعة للاستهلاك؟
في افتتاحية عدد حديقة الهسبيريد المخصص لبعض أوجه التراث الثقافي غير المادي بالمغرب، يكتب سكونتي بلغة هادئة وعميقة عن التراث الذي لا يوجد إلا بوجود الجماعات التي تمارسه وتنقله، وعن الخطر الذي يتهدده حين تغيب السياسات، وحين يترك للاندثار الصامت. تلك الكتابة ليست توصيفا أكاديميا فحسب، بل بيانا ثقافيا يذكّر بأن المعرفة، إن لم تترجم إلى فعل، تبقى ناقصة.
ليس أحمد سكونتي من أولئك الذين يرفعون أصواتهم ليُسمَعوا، بل من الذين يصغى إليهم لأنهم يعرفون كيف يجعلون المعرفة إنصاتا. إن حضوره في فضاء مثل اليونسكو يذكّر بأن المؤسسة، مهما بلغت من التعقيد البيروقراطي، تحتاج دائما إلى مثقف يعيد ربطها بجذرها الإنساني الأول: حماية ما يجعل الإنسان إنسانا.
لقد أعطى أحمد سكونتي الكثير، لا عبر التراكم الكمي للمنجزات فحسب، بل عبر الوفاء لفكرة الثقافة باعتبارها فعلا جماعيا، وذاكرة حيّة، وحوارا دائما بين الماضي والحاضر. في عمله حول التراث غير المادي، لا يبحث عن الزينة، ولا عن الإبهار، بل عن المعنى العميق الذي يجعل من الرقص صلاة جسدية، ومن الحرفة معرفة متوارثة، ومن الحكاية أرشيفا شفهيا للألم والفرح معا.
وحين يدخل مثقف من هذا الطراز إلى جهاز تقييم دولي، فإن السؤال يتحوّل: هل ستتغيّر اليونسكو؟ ربما. لكن الأكيد أن صوتا آخر سيُسمَع، صوتا لا يقيس التراث بمدى قابليته للتسويق، بل بقدرته على خلق الانتماء، وعلى مقاومة النسيان. ذلك هو الرهان الحقيقي: أن تعود المؤسسة فضاء للحوار لا مجرد آلية للتصنيف.
نحن في حاجة إلى أمثال أحمد سكونتي في هذه المواقع، لأنهم لا يأتون بإسم بلدنا فقط، بل بإسم فكرة. فكرة أن الثقافة ضرورة وجودية؛ وأن التراث ليس ماضيا منتهيا، بل مستقبل يصاغ في الحاضر. في عالم يهرول نحو التماثل، يصبح الدفاع عن التنوّع الثقافي فعلا من أفعال المقاومة الهادئة.
إن هذا الانتخاب، في عمقه، تحية لمسار علميّ وإنسانيّ طويل، ودعوة مفتوحة لإعادة الاعتبار لدور المثقف داخل المؤسسات العميقة التي تحتضن الثقافة. فبأمثال أحمد سكونتي، تحيا هذه المراكز، وتستعيد الثقافة أنفاسها، ويجد التراث من يحمله لا كعبء من الماضي، بل كأمانة للمستقبل.
هكذا، لا نكتب عن رجلٍ فقط، بل عن معنى. معنى أن يكون المثقف رسولا هادئا في زمن الضجيج، وجسرا بين العوالم، وحارسا لذاكرة إنسانيةٍ لا تزال، رغم كل شيء، تستحق أن تصان.
فليست اللجان ما يغيّر مصير الثقافة، ولا المؤسسات ما ينقذ الذاكرة من أفولها، بل تلك اللحظة النادرة التي يدخل فيها إنسان ممتلئ بالمعنى إلى جهاز مثقل بالإجراءات. عندها فقط، يحدث الصدع الخلّاق في الزمن، ويبدأ ما يشبه المعجزة الهادئة: أن تتذكّر المؤسسة أنها لم تُبن لتدير التراث، بل لتصغي إليه.
بحضور أحمد سكونتي في جهاز التقييم، لا تنتقل خبرة أكاديمية إلى طاولة دولية فحسب، بل تعبر معها طبقات من الذاكرة غير المرئية: أصوات الأسلاف، إيقاع الأيادي الصانعة، حِكم الجماعات التي لم تكتب تاريخها بالحبر، بل بالجسد والممارسة والطقس. كأن الثقافة، وقد ضاقت بلغتها الرسمية، وجدت من يتكلم بإسمها دون أن يدّعي إمتلاكها.
في الفلسفة العميقة للتراث، لا يكون الخطر في النسيان وحده، بل في التسمية الخاطئة. وهنا تكمن رهبة الدور: أن تُقيّم الثقافات دون أن تستأنس، وأن تسجَّل دون أن تحنَّط. المثقف، في هذا الموضع، ليس قاضيا ولا خبيرا، بل شاهدا بين زمنين، حارسا لمسافة دقيقة بين الحفظ والقتل الرمزي.
سيأتي زمن تُمحى فيه أسماء اللجان، وتنسى أرقام الدورات، غير أن ما سيبقى هو ذلك الأثر الصامت الذي يتركه المثقف حين يمرّ: إنزياح طفيف في منطق القرار، رجفة خفيفة في لغة التقرير، وشكّ نبيل يمنع الثقافة من أن تختزل في خانة.
هكذا، لا يكون أحمد سكونتي عضوا في لجنة فحسب، بل علامة على إمكان آخر للعالم: عالم تدار فيه الثقافة بالحكمة لا بالسرعة، وبالإنصات لا بالضجيج. عالم يفهم أن التراث ليس ما نُورِّثه للمستقبل، بل ما يسمح لنا المستقبل أن نحمله دون أن ننكسر.
وإذا كان للزمن أن ينصت إلى ذاته، فسيجد في هذا الحضور دليلا على أن المعنى، مهما توارى، لا يختفي، بل ينتظر فقط من يملك الشجاعة ليجلس إلى جواره، لا فوقه.