يوسف لهلالي: زمن ما بعد الأطلسي.. الولايات المتحدة تفكّك نظاماً عمره 80 عاماً

يوسف لهلالي:  زمن ما بعد الأطلسي.. الولايات المتحدة تفكّك نظاماً عمره 80 عاماً يوسف لهلالي

تبدو أوروبا اليوم أبعد ما تكون عن دائرة الاهتمام الاستراتيجي للولايات المتحدة، وهو ما تجلّى بوضوح في وثيقة الأمن القومي التي نشرها البيت الأبيض يوم 5 ديسمبر. فالوثيقة، التي تُعد مرجعًا أساسيًا لرسم أولويات القوة العظمى الأولى في العالم، جاءت لتؤكد حدوث تحوّل جذري في النظرة الأميركية للعالم، وتراجعًا في الالتزام التقليدي تجاه القارة الأوروبية وحلف شمال الأطلسي، اللذين شكّلا ركيزة النظام الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وهذا ما يوحي بالتخلي عن تعاقد أطلسي استمر ثمانية عقود، منذ انتصار الحلفاء على النازية وتشكيل نظام دولي جديد اختفت فيه قوى وبرزت أخرى.

تحوّل جوهري في المقاربة الأميركية

منذ قيام النظام الأمني الغربي بعد عام 1945، اعتمدت أوروبا على المظلة الأميركية لضمان أمنها وردع الأخطار السوفياتية سابقًا والروسية لاحقًا. غير أن إدارة دونالد ترامب تبدو عازمة على إعادة النظر في هذه المنظومة؛ إذ لم يكتفِ الرئيس بانتقاد الحلفاء الأوروبيين واتهامهم بـ"الغباء" واعتماد سياسات "كارثية" في مجال الهجرة، بل ذهب أبعد من ذلك حين قدّم أولويات جديدة تتجاوز دور الحلف الأطلسي وتعيد تعريف مصالح الولايات المتحدة.

وفي سلسلة مقابلات أعقبت نشر الوثيقة، طرح ترامب رؤيته الخاصة للعالم؛ وهي رؤية ذات طابع أيديولوجي واضح تقوم على إعادة تركيز السياسة الخارجية الأميركية نحو الجوار الإقليمي، وفي مقدمته أميركا اللاتينية، بدلاً من الانخراط العميق في الساحة الدولية. وتضع هذه الاستراتيجية الهجرة في مقدمة التهديدات، في تبنٍ مباشر لنظرية "الاستبدال الكبير" والخشية من انحسار هيمنة السكان البيض في الولايات المتحدة، التي يبدو أن دورها الديموغرافي في تراجع.

تشير وثيقة الأمن القومي إلى أن أميركا اللاتينية أصبحت أولوية قصوى، في قطيعة تامة مع نهج إدارة أوباما التي ركزت على آسيا لمواجهة التمدد الصيني. فالصين، بحسب معظم الاستراتيجيين الأميركيين، هي المنافس الحقيقي والتهديد الأكبر للنفوذ الأميركي عالميًا، اقتصادياً وتجارياً وتكنولوجياً وعسكريًا. لكن إدارة ترامب وضعت الهجرة – لا الصين – على رأس قائمة المخاطر، بما يعكس تحولًا عميقًا في تعريف الأمن القومي، الذي أصبح يغلب عليه الطابع الأيديولوجي أكثر من الأسس الاستراتيجية التقليدية.

أما الشرق الأوسط، الذي كان محورًا رئيسيًا في الاستراتيجية الأميركية لعقود، فقد تراجع موقعه في الحسابات الجديدة بعد أن أصبحت الولايات المتحدة من كبار منتجي النفط. ويغلب على الوثيقة الطابع الأيديولوجي اليميني المتطرف أكثر من كونه تحليلًا استراتيجيًا محايدًا.

ويقول ترامب في مقدمة الوثيقة: "في كل ما نفعله، نضع أميركا أولاً"، في إشارة واضحة إلى قطيعة مع من يعتبرهم رؤساء سابقون "أهملوا" المصالح الأميركية، وهو ادعاء يناقض سجلات السياسة الخارجية للولايات المتحدة منذ عقود.

ولا تخلو الوثيقة الجديدة من تناقضات واضحة؛ فهي تعلن أن الولايات المتحدة لا تسعى إلى الهيمنة العالمية، لكنها في الوقت نفسه تؤكد ضرورة منع قوى أخرى – وعلى رأسها الصين – من اكتساب نفوذ مماثل. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: كيف يمكن لواشنطن أن تمنع صعود قوى منافسة دون استخدام القوة أو التلويح بها؟ وماذا عن مئات القواعد العسكرية المنتشرة حول العالم؟

كما تتعهد الوثيقة بإعادة توزيع القوات الأميركية والتركيز على "التهديدات الآنية" في الجوار القريب، وفي مقدمتها الهجرة غير النظامية، وهو ما ينسجم مع العمليات العسكرية الأميركية في منطقة الكاريبي وحول فنزويلا.

ارتباك أوروبي وردود خجولة

تذهب الوثيقة إلى حد الدعوة إلى "تنمية المقاومة للمسار السياسي الحالي في أوروبا داخل البلدان الأوروبية نفسها"، في إشارة واضحة إلى دعم الحركات اليمينية المتشددة. وهو ما يُعدّ تدخلاً مباشرًا في الشؤون السياسية للدول الأوروبية، ويعكس رغبة إدارة ترامب في دفع أوروبا نحو سياسات أكثر تشددًا وعداءً للهجرة، بما يتوافق مع أجندات اليمين الشعبوي في إيطاليا والمجر وغيرهما من البلدان التي تشهد صعودًا قويًا لهذا التيار، وهو الخطاب الذي يكرره ترامب حين يؤكد أن أوروبا ضعيفة وفي تدهور مستمر.

أثارت الوثيقة وتصريحات ترامب موجة ارتباك لدى العواصم الأوروبية. فجاء الرد الألماني سريعًا لكنه متحفظ، إذ شددت برلين على أنها "ليست بحاجة إلى نصائح من الخارج". أما مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس، فقد حاولت التخفيف من حدة التوتر قائلة: "الولايات المتحدة ما زالت حليفنا الأكبر… نختلف في بعض الملفات، لكن المنطق المشترك ما زال قائمًا". وكان أقوى رد قادمًا من دولة أوروبية صغيرة هي مملكة الدنمارك، التي اعتبرت أن الولايات المتحدة أصبحت تشكل تهديدًا لأمنها ولمصالحها. أما فرنسا، فعلى لسان رئيسها إيمانويل ماكرون، رأت أن أوروبا "تعرّضت للخيانة" في الملف الأوكراني، وذلك بحسب صحيفة "دير شبيغل" الألمانية التي نقلت حديثًا بينه وبين فولوديمير زيلينسكي، وهو ما نفاه قصر الإليزيه لاحقًا.

غير أن مواقف إدارة ترامب من الحرب الروسية–الأوكرانية، ومنحها مساحات أوسع لروسيا، إضافة إلى معارضتها توسيع الحلف الأطلسي، تظل مؤشرات قوية على ابتعاد واشنطن عن التزاماتها التاريخية تجاه أمن أوروبا، التي أصبح عليها الآن أن تعتمد على نفسها في قضايا الدفاع في مواجهة التهديد الروسي الذي ازداد ضغطه منذ وصول إدارة ترامب، والتي لا تنظر بعين الرضى إلى مؤسسات الاتحاد الأوروبي وتشجع مبادرات الدول لتقويض دور بروكسل.

إن الاستراتيجية الجديدة للإدارة الأميركية تكشف عن تغيير عميق في المفاهيم والقيم التي حكمت السياسة الخارجية للولايات المتحدة لعقود. فبدلاً من أوروبا والحلف الأطلسي، صارت الأولوية الآن للهجرة والجوار القريب. وبينما تحاول أوروبا التمسك بعلاقتها التقليدية مع واشنطن، تبدو الولايات المتحدة – في المقابل – في طريقها نحو إعادة رسم تحالفاتها على أساس رؤية قومية ضيقة، قد تغيّر مستقبل الناتو ونظام الأمن الغربي بأكمله.