الملاحظة عامة، تكاد تكون محل إجماع، تُهمس بها ممرات المصحات كما تتردد في قاعات انتظار العيادات: منذ أن فُتح سوق العلاج أمام مستثمرين غير أطباء، لم يعد المشهد الطبي المغربي كما كان.
بالأمس القريب، كان الأطباء يشيدون عياداتهم كما تُبنى البيوت: حجرًا بعد حجر، مريضًا بعد مريض، وسمعةً بعد سمعة.
أما اليوم، فالمستثمرون يشيدون مجموعات استشفائية كما تُؤسَّس الشركات الناشئة: دراسة جدوى، تعبئة رؤوس الأموال، هوية بصرية، واستراتيجية توسع.
ولم تعد المعركة تُحسم فقط في جودة الفعل الطبي، بل انتقلت إلى ميدان أكثر شراسة: التسويق، والتدبير، والربحية.
فاعلون جدد… خبراء أكثر في السوق و في الطب
المستثمرون الجدد في القطاع الخاص ليسوا خارج القانون، ولا حتى خارج الملعب.
إنهم يلعبون وفق القواعد… لكن وفق قواعد السوق، لا وفق قسم أبقراط.
لغتهم أرقام وحصص سوق ونِسَب نمو.
تفكيرهم تدفقات مالية وهوامش ربح واستهلاكات.
يمسكون بسلاح التسويق الرقمي كما يمسك الجراح بالمشرط: بدقة، بفعالية، ومن دون عاطفة.
وأمامهم، يبدو الطبيب الحر أحيانًا كلاعِب كرة قدم دخل مباراة دوري أبطال أوروبا… بحذاء مهترئ.
الطبيب… مطالب بدورين لم يتعلمهما
الطبيب المغربي في القطاع الحر لم يُكوَّن لهذه المعركة.
في كلية الطب، تعلّم كيف يُعالج انسدادًا رئويًا، لا كيف يقرأ جدول التدفقات النقدية.
تعلّم جسّ الكبد، لا تحسين التكاليف.
تعلّم فن التشخيص، لا تقنيات التسويق الرقمي.
ومع ذلك، تفرض عليه الوقائع الجديدة أن يكون مديرًا، ومسيرًا، ومتواصلًا، واستراتيجيًا…
وكل ذلك بعد عشر أو خمس عشرة أو عشرين سنة من الدراسة، وحراسات طويلة، وتدريب قاسٍ، وتخصص انتُزع بعرق الجبين.
الطبيب لم يكن يحلم سوى بمعطف أبيض ناصع.
فإذا به مطالب اليوم أيضًا بارتداء بدلة مفصلة على مقاس السوق.
اختلال ميزان القوة: منافسة شرسة
وهنا يبرز السؤال الحقيقي:
هل المعركة متكافئة؟
من جهة، مجموعات قوية، منظمة، بميزانيات تواصل تضاهي مؤسسات بنكية، قادرة على تمويل ملفات صحفية، وحملات إشهارية، ومؤثرين، وصفحات رقمية مدعومة.
ومن جهة أخرى، طبيب مستقل يحسب مصاريفه، ويدبر سكرتاريته، ويدفع كراءه، ويجدد معداته، ويحترم أخلاقيات مهنته… ويحاول رغم كل شيء أن يبقى إنسانيًا.
المباراة محسومة قبل صافرة البداية.
إنها مثل مواجهة بين لاعب كرة القدم ديال الدرب … وريال مدريد.
حين يسبق منطق التجارة الاهداف العلاجية
الخطر ليس في الاستثمار الخاص في حد ذاته؛ فقد يكون فرصة، ومحركًا، ومسرّعًا للتطور.
الخطر حين يسبق منطق التجارة منطق الأخلاق.
حين لا يكون الهدف هو العلاج الأفضل، بل الملء الأفضل.
حين يتحول المريض إلى “زبون”، ويُختزل الفعل الطبي في “منتَج”.
تحل الإعلانات محل الثقة.
ويحل التقرير المالي محل العلاقة الإنسانية بين الطبيب ومريضه.
وحينها، يخاطر الطب بفقدان روحه، كآلة موسيقية تواصل العزف… لكن بلا إحساس.
كيف نعيد التوازن إلى اللعبة؟
لكي تكون المنافسة عادلة، لا بد من إعادة تزويد الأطباء — أو تمكينهم من اكتساب — الأسلحة التي لم تُمنح لهم يومًا:
تكوين حقيقي في التسيير والتدبير، في التكوين الأساسي والمستمر؛
تثمين الممارسة الطبية الحرة لتفادي الإغلاق الصادم للعيادات؛
إطار تنظيمي يحمي الأخلاقيات ويحد من فرط التسليع؛
تعزيز دور الهيئات المهنية؛
مواكبة فعلية في التحول الرقمي؛ وتعلم تقنيات تواصل حديثة ومسؤولة
المغرب قادر على كسب هذا التحول.
لكن ليس بترك الأطباء وحدهم في ساحة تتقدم فيها قواعد السوق… على حساب قواعد الطب.