عثمان الزياني: التوافقات الواسعة التي تمخضت عن دستور 2011 ساهمت في تراجع الحاجة إلى المعارضة الأيديولوجية الصارخة

عثمان الزياني: التوافقات الواسعة التي تمخضت عن دستور 2011 ساهمت في تراجع الحاجة إلى المعارضة الأيديولوجية الصارخة عثمان الزياني، أستاذ القانون العام بجامعة محمد الأول بوجدة 
إن‭ ‬تحول‭ ‬الخطاب‭ ‬الحزبي‭ ‬للمعارضة‭ ‬بعد‭ ‬الوصول‭ ‬الى‭ ‬الحكومة‭ ‬في‭ ‬المغرب،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬اعتباره‭ ‬كفعل‭ ‬صدفوي‭ ‬أو‭ ‬عرضي،‭ ‬بل‭ ‬نتاج‭ ‬تضافر‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬الأسباب‭ ‬والعوامل‭ ‬المستحكمة‭ ‬والمولدة‭ ‬لهذا‭ ‬السلوك‭ ‬السياسي‭ ‬غير‭ ‬السليم،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬مجملها‭ ‬أيديولوجية‭ ‬وبرامجية‭ ‬ومؤسساتية،‭ ‬وفي‭ ‬ظل‭ ‬منطق‭ ‬نظام‭ ‬سياسي‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬عقيدة‭ ‬الاستقرار‭ ‬والاستمرارية،‭ ‬ومركزية‭ ‬السلطة‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬إنكار‭ ‬أن‭ ‬قواعد‭ ‬اللعبة‭ ‬السياسية‭ ‬(الدستور،‭ ‬والنظام‭ ‬الانتخابي،‭ ‬والعلاقات‭ ‬المؤسساتية‭ ‬مع‭ ‬الملكية)‭ ‬تقوم‭ ‬بدور‭ ‬بارز‭ ‬ومحوري‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬الأفكار‭ ‬والمواقف‭ ‬والأجندات‭ ‬الحزبية‭. ‬بمعنى‭ ‬أنها‭ ‬تساهم‭ ‬الى‭ ‬حد‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬تحديد‭ ‬سلوك‭ ‬الفاعلين‭ ‬السياسيين/‭ ‬الحزبيين،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬ينسجم‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬كرسته‭ ‬المقتضيات‭ ‬الدستورية‭ ‬بعد‭ ‬2011‭ ‬والتي‭ ‬تمخضت‭ ‬عنها‭ ‬توافقات‭ ‬واسعة‭ ‬حول‭ ‬بعض‭ ‬القضايا‭ ‬المجتمعية،‭ ‬مما‭ ‬ساهم‭ ‬الى‭ ‬حد‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬تراجع‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬المعارضة‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬الصارخة‭.‬
 
يمكن‭ ‬ربط‭ ‬المسألة‭ ‬بغياب‭ ‬الوضوح‭ ‬الإيديولوجي،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬الأحزاب‭ ‬المغربية‭ ‬أضحت‭ ‬تعوزها‭ ‬المرجعية‭ ‬الفكرية‭ ‬الواضحة‭. ‬حيث‭ ‬تتجسد‭ ‬احداثيات‭ ‬الفراغ‭ ‬الفكري‭ ‬الجلي‭ ‬والتداعي‭ ‬المكين‭ ‬لمختلف‭ ‬المرجعيات‭ ‬الحزبية‭. ‬وأضف‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬غلبة‭ ‬وسيادة‭ ‬منطق‭ ‬التماثل‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬متطلب‭ ‬الاختلاف‭ ‬والتنوع‭. ‬وقد‭ ‬ساهمت‭ ‬المشاركة‭ ‬المستمرة‭ ‬لمجموعة‭ ‬من‭ ‬الأحزاب‭ ‬في‭ ‬الحكومات‭ ‬إلى‭ ‬تذويب‭ ‬الخطوط‭ ‬الإيديولوجية‭ ‬للأحزاب،‭ ‬وحلت‭ ‬محلها‭ ‬ايديولوجية‭ ‬الرغبة‭ ‬الجامحة‭ ‬في‭ ‬الاصطفاف‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الأغلبية‭ ‬الحكومية،‭ ‬بينما‭ ‬ظلت‭ ‬المعارضة‭ ‬كخيار‭ ‬ثانوي‭ ‬غير‭ ‬مرغوب‭ ‬فيه‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يفسر‭ ‬اتخاذ‭ ‬الخطاب‭ ‬الحزبي‭ ‬أنساقا‭ ‬متنية‭ ‬يغلب‭ ‬عليها‭ ‬طابع‭ ‬العمومية‭ ‬والتقنية‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬التحالفات‭ ‬الحزبية‭ ‬تقوم‭ ‬في‭ ‬معظمها‭ ‬على‭ ‬مقدار‭ ‬المكاسب‭ ‬الانتخابية‭ ‬والبراغماتية/‭ ‬المصلحية،‭ ‬وليس‭ ‬على‭ ‬البرامج‭ ‬ذات‭ ‬البعد‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬المتين‭. ‬وهذا‭ ‬التوجه‭ ‬الحزبي‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬تشكل‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التأرجح‭ ‬بين‭ ‬البراغماتية‭ ‬الانتخابية‭ ‬والحمولات‭ ‬الشعبوية‭ ‬داخل‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأحزاب‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬ذات‭ ‬مرجعية‭ ‬أيديولوجية‭ ‬أصيلة،‭ ‬والذي‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬تعضيد‭ ‬حالات‭ ‬الصراع‭ ‬والانقسام‭ ‬في‭ ‬صفوفها‭ ‬وتراجعا‭ ‬بينا‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬خطابها‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬والفكري‭. ‬
 
كما‭ ‬اتضح‭ ‬أن‭ ‬الأحزاب‭ ‬ترتكز‭ ‬في‭ ‬سردياتها‭ ‬الخطابية‭ ‬على‭ ‬الشعارات‭ ‬العامة‭ ‬دون‭ ‬تقديم‭ ‬برامج‭ ‬حقيقية‭ ‬وواقعية‭ ‬قابلة‭ ‬للتنفيذ‭. ‬خصوصا‭ ‬وأن‭ ‬دور‭ ‬المعارضة‭ ‬غالبا‭ ‬ما‭ ‬ينحصر‭ ‬في‭ ‬الانتقاد‭ ‬دون‭ ‬اقتراح‭ ‬بدائل‭ ‬وحلول‭ ‬عملية‭. ‬بمعنى‭ ‬أنها‭ ‬تنتج‭ ‬خطابا‭ ‬معارضا‭ ‬هشا‭. ‬وهذا‭ ‬يؤثر‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير‭ ‬على‭ ‬أدائها‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬عبورها‭ ‬إلى‭ ‬الحكومة‭. ‬فبمجرد‭ ‬مشاركتها‭ ‬في‭ ‬الحكومة،‭ ‬تنقلب‭ ‬في‭ ‬تحدياتها‭ ‬وتنقض‭ ‬برامجها‭ ‬السياسية‭ ‬والانتخابية،‭ ‬مما‭ ‬يجعلها‭ ‬رهينة‭ ‬الاجتهاد‭ ‬أكثر‭ ‬في‭ ‬التكيف‭ ‬مع‭ ‬موقعها‭ ‬في‭ ‬الأغلبية‭ ‬الحكومية‭ ‬الذي‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬أولوية‭ ‬نافذة،‭ ‬بينما‭ ‬تتوارى‭ ‬الانشغالات‭ ‬بالبرامج‭ ‬الرامية‭ ‬إلى‭ ‬الإصلاح‭ ‬والتغيير‭.‬
 
وفي‭ ‬مقام‭ ‬آخر‭ ‬نجد‭ ‬تأثير‭ ‬إكراهات‭ ‬السلطة‭ ‬ومنطق‭ ‬الحكم،‭ ‬حيث‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬المنصب‭ ‬الحكومي‭ ‬يستوجب‭ ‬نمطا‭ ‬مختلفا‭ ‬من‭ ‬الخطاب‭. ‬بحكم‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬قناعة‭ ‬ترسخت‭ ‬مفادها‭ ‬أن‭ ‬تولي‭ ‬السلطة‭ ‬يضع‭ ‬الأحزاب‭ ‬تحت‭ ‬ضغوط‭ ‬جديدة‭ ‬يجعلها‭ ‬تنزاح‭ ‬أكثر‭ ‬نحو‭ ‬تطويع‭ ‬خطابها‭ ‬وشعاراتها‭ ‬مع‭ ‬فروض‭ ‬إكراهات‭ ‬السلطة‭ ‬والتموقع‭ ‬مع‭ ‬الأغلبية‭ ‬الحكومية،‭ ‬بمعنى‭ ‬ضرورة‭ ‬الانصياع‭ ‬خطابيا‭ ‬وسلوكيا‭ ‬مع‭ ‬قواعد‭ ‬اللعبة‭ ‬المعتمدة‭. ‬أي‭ ‬أن‭ ‬أي‭ ‬حزب‭ ‬منضو‭ ‬في‭ ‬الحكومة‭ ‬يجد‭ ‬نفسه‭ ‬مضطرا‭ ‬إلى‭ ‬تغليب‭ ‬كفة‭ ‬الاشتغال‭ ‬وفق‭ ‬منطق‭ ‬الحكومة‭ ‬والسعي‭ ‬وراء‭ ‬تحصين‭ ‬موقعه‭ ‬ومكاسبه‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬خطه‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬ومتطلبات‭ ‬المواطنين‭. ‬وهذا‭ ‬تفرضه‭ ‬بالأساس‭ ‬الإستجابة‭ ‬لواقع‭ ‬متغير‭ ‬يفرضه‭ ‬موقع‭ ‬السلطة‭ ‬والحكم،‭ ‬وتعززه‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬البقاء‭ ‬السياسي‭ ‬وبراغماتية‭ ‬المناصب‭. ‬والبراغماتية‭ ‬السياسية‭ ‬تعبر‭ ‬دائما‭ ‬عن‭ ‬استعداد‭ ‬الأحزاب‭ ‬للتضحية‭ ‬بالأيديولوجيا‭ ‬والخطاب‭ ‬المعارض‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬المكاسب‭ ‬السياسية‭ ‬الفورية‭.‬
 
التموقع‭ ‬في‭ ‬الأغلبية‭ ‬الحكومية‭ ‬غالبا‭ ‬ما‭ ‬تحركه‭ ‬دوافع‭ ‬مرتبطة‭ ‬بالتعاون‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬المصلحة‭ ‬الذاتية‭ ‬بين‭ ‬الأحزاب،‭ ‬والذي‭ ‬يهدف‭ ‬إلى‭ ‬تأمين‭ ‬الموارد‭ ‬التنظيمية‭ ‬(الإعانات‭ ‬العامة‭ ‬والمحسوبية)‭ ‬والاستقرار‭ ‬الوظيفي‭ ‬(الدخل،‭ ‬إعادة‭ ‬الانتخاب،‭ ‬الوظائف‭ ‬السياسية‭ ‬البديلة)‭ ‬للفرد‭ ‬السياسي/‭ ‬الحزبي‭. ‬كما‭ ‬أدركت‭ ‬الأحزاب‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬ضعفا‭ ‬متزايدا‭ ‬في‭ ‬الموارد‭ ‬المجتمعية‭ ‬وتكيفت‭ ‬مع‭ ‬التحرك‭ ‬نحو‭ ‬الدولة،‭ ‬وأدركت‭ ‬أيضا‭ ‬أن‭ ‬بإمكانها‭ ‬استخدام‭ ‬وجودها‭ ‬في‭ ‬الحكومة‭ ‬لتوسيع‭ ‬مواردها‭ ‬التنظيمية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬العمل‭ ‬الجماعي‭ ‬ومشاركة‭ ‬الموارد‭ ‬والمنافع‭ ‬والامتيازات‭ ‬التي‭ ‬توفرها‭ ‬الدولة‭. ‬وبمنطق‭ ‬الاحتراف‭ ‬السياسي‭ ‬الحزبي‭ ‬أيضا‭ ‬تتشكل‭ ‬نخبة‭ ‬أوليغارشية‭ ‬حزبية‭ ‬متفرغون‭ ‬ويخططون‭ ‬لمهنة‭ ‬سياسية‭ ‬طويلة‭ ‬الأجل،‭ ‬وينظرون‭ ‬إلى‭ ‬خصومهم‭ ‬السياسيين‭ ‬على‭ ‬أنهم‭ ‬زملاء‭ ‬مهنيون،‭ ‬تدفعهم‭ ‬نفس‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الأمن‭ ‬الوظيفي‭.  ‬وبالتالي،‭ ‬لا‭ ‬يعمل‭ ‬السياسيون‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬الأحزاب‭ ‬معا‭ ‬في‭ ‬بيئات‭ ‬مختلفة‭ ‬(تحالفات،‭ ‬لجان‭ ‬برلمانية)‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬يشتركون‭ ‬أيضا‭ ‬في‭ ‬مصالح‭ ‬مشتركة‭ ‬تتعلق‭ ‬بهم‭ ‬(الدخل،‭ ‬إعادة‭ ‬الانتخاب،‭ ‬الطموحات‭ ‬المهنية)‭ ‬والتنظيمية‭ ‬(الإعانات‭ ‬الحكومية،‭ ‬المحسوبية)‭ ‬والحفاظ‭ ‬على‭ ‬الذات،‭ ‬والأكيد‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬النخبة‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬تمسك‭ ‬بدواليب‭ ‬الحزب،‭ ‬وفي‭ ‬سبيل‭ ‬تحصين‭ ‬مصالحها‭ ‬وكسب‭ ‬رهاناتها‭ ‬ترى‭ ‬في‭ ‬مسالة‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬المعارضة‭ ‬إلى‭ ‬الأغلبية‭ ‬الحكومية‭ ‬بمثابة‭ ‬الاستثمار‭ ‬السياسي‭ ‬والمادي‭ ‬الأجدى،‭ ‬وهي‭ ‬على‭ ‬استعداد‭ ‬كامل‭ ‬في‭ ‬تطويع‭ ‬أيديولوجية‭ ‬الحزب‭ ‬وخطابه‭ ‬مع‭ ‬مستلزمات‭ ‬الانتماء‭ ‬الحكومي‭.‬
 
وعليه‭ ‬فإن‭ ‬الأحزاب‭ ‬المغربية‭ ‬مدعوة‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬بناء‭ ‬مرجعياتها‭ ‬وأجنداتها‭ ‬بما‭ ‬ينسجم‭ ‬مع‭ ‬تحديات‭ ‬ومتطلبات‭ ‬المجتمع،‭ ‬وبما‭ ‬يكفل‭ ‬اعتماد‭ ‬أدوات‭ ‬وتقنيات‭ ‬تروم‭ ‬إلى‭ ‬اشراكه‭ ‬الفعلي‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬صنع‭ ‬القرار،‭ ‬وإلا‭ ‬فإنها‭ ‬ستبقى‭ ‬حبيسة‭ ‬وضع‭ ‬تمخض‭ ‬فيه‭ ‬خطابات‭ ‬معارضة‭ ‬غير‭ ‬رشيدة‭ ‬وسلوك‭ ‬براغماتي/‭ ‬مصلحي‭ ‬في‭ ‬السلطة،‭ ‬ودون‭ ‬اكتساب‭ ‬أي‭ ‬ثقة‭ ‬شعبية‭ ‬حقيقية‭.‬