إن تحول الخطاب الحزبي للمعارضة بعد الوصول الى الحكومة في المغرب، لا يمكن اعتباره كفعل صدفوي أو عرضي، بل نتاج تضافر جملة من الأسباب والعوامل المستحكمة والمولدة لهذا السلوك السياسي غير السليم، وهي في مجملها أيديولوجية وبرامجية ومؤسساتية، وفي ظل منطق نظام سياسي يعتمد على عقيدة الاستقرار والاستمرارية، ومركزية السلطة. وفي هذا السياق لا يمكن إنكار أن قواعد اللعبة السياسية (الدستور، والنظام الانتخابي، والعلاقات المؤسساتية مع الملكية) تقوم بدور بارز ومحوري في تشكيل الأفكار والمواقف والأجندات الحزبية. بمعنى أنها تساهم الى حد كبير في تحديد سلوك الفاعلين السياسيين/ الحزبيين، وهو ما ينسجم مع ما كرسته المقتضيات الدستورية بعد 2011 والتي تمخضت عنها توافقات واسعة حول بعض القضايا المجتمعية، مما ساهم الى حد كبير في تراجع الحاجة إلى المعارضة الأيديولوجية الصارخة.
يمكن ربط المسألة بغياب الوضوح الإيديولوجي، أي أن الأحزاب المغربية أضحت تعوزها المرجعية الفكرية الواضحة. حيث تتجسد احداثيات الفراغ الفكري الجلي والتداعي المكين لمختلف المرجعيات الحزبية. وأضف إلى ذلك غلبة وسيادة منطق التماثل على حساب متطلب الاختلاف والتنوع. وقد ساهمت المشاركة المستمرة لمجموعة من الأحزاب في الحكومات إلى تذويب الخطوط الإيديولوجية للأحزاب، وحلت محلها ايديولوجية الرغبة الجامحة في الاصطفاف إلى جانب الأغلبية الحكومية، بينما ظلت المعارضة كخيار ثانوي غير مرغوب فيه. وهذا ما يفسر اتخاذ الخطاب الحزبي أنساقا متنية يغلب عليها طابع العمومية والتقنية. كما أن التحالفات الحزبية تقوم في معظمها على مقدار المكاسب الانتخابية والبراغماتية/ المصلحية، وليس على البرامج ذات البعد الأيديولوجي المتين. وهذا التوجه الحزبي أدى إلى تشكل نوع من التأرجح بين البراغماتية الانتخابية والحمولات الشعبوية داخل الكثير من الأحزاب التي كانت في الأصل ذات مرجعية أيديولوجية أصيلة، والذي أدى إلى تعضيد حالات الصراع والانقسام في صفوفها وتراجعا بينا على مستوى خطابها الأيديولوجي والفكري.
كما اتضح أن الأحزاب ترتكز في سردياتها الخطابية على الشعارات العامة دون تقديم برامج حقيقية وواقعية قابلة للتنفيذ. خصوصا وأن دور المعارضة غالبا ما ينحصر في الانتقاد دون اقتراح بدائل وحلول عملية. بمعنى أنها تنتج خطابا معارضا هشا. وهذا يؤثر إلى حد كبير على أدائها في سياق عبورها إلى الحكومة. فبمجرد مشاركتها في الحكومة، تنقلب في تحدياتها وتنقض برامجها السياسية والانتخابية، مما يجعلها رهينة الاجتهاد أكثر في التكيف مع موقعها في الأغلبية الحكومية الذي يتحول إلى أولوية نافذة، بينما تتوارى الانشغالات بالبرامج الرامية إلى الإصلاح والتغيير.
وفي مقام آخر نجد تأثير إكراهات السلطة ومنطق الحكم، حيث نجد أن المنصب الحكومي يستوجب نمطا مختلفا من الخطاب. بحكم أن هناك قناعة ترسخت مفادها أن تولي السلطة يضع الأحزاب تحت ضغوط جديدة يجعلها تنزاح أكثر نحو تطويع خطابها وشعاراتها مع فروض إكراهات السلطة والتموقع مع الأغلبية الحكومية، بمعنى ضرورة الانصياع خطابيا وسلوكيا مع قواعد اللعبة المعتمدة. أي أن أي حزب منضو في الحكومة يجد نفسه مضطرا إلى تغليب كفة الاشتغال وفق منطق الحكومة والسعي وراء تحصين موقعه ومكاسبه على حساب خطه الأيديولوجي ومتطلبات المواطنين. وهذا تفرضه بالأساس الإستجابة لواقع متغير يفرضه موقع السلطة والحكم، وتعززه الرغبة في البقاء السياسي وبراغماتية المناصب. والبراغماتية السياسية تعبر دائما عن استعداد الأحزاب للتضحية بالأيديولوجيا والخطاب المعارض في سبيل المكاسب السياسية الفورية.
التموقع في الأغلبية الحكومية غالبا ما تحركه دوافع مرتبطة بالتعاون القائم على المصلحة الذاتية بين الأحزاب، والذي يهدف إلى تأمين الموارد التنظيمية (الإعانات العامة والمحسوبية) والاستقرار الوظيفي (الدخل، إعادة الانتخاب، الوظائف السياسية البديلة) للفرد السياسي/ الحزبي. كما أدركت الأحزاب أن هناك ضعفا متزايدا في الموارد المجتمعية وتكيفت مع التحرك نحو الدولة، وأدركت أيضا أن بإمكانها استخدام وجودها في الحكومة لتوسيع مواردها التنظيمية من خلال العمل الجماعي ومشاركة الموارد والمنافع والامتيازات التي توفرها الدولة. وبمنطق الاحتراف السياسي الحزبي أيضا تتشكل نخبة أوليغارشية حزبية متفرغون ويخططون لمهنة سياسية طويلة الأجل، وينظرون إلى خصومهم السياسيين على أنهم زملاء مهنيون، تدفعهم نفس الرغبة في تحقيق نوع من الأمن الوظيفي. وبالتالي، لا يعمل السياسيون من مختلف الأحزاب معا في بيئات مختلفة (تحالفات، لجان برلمانية) فحسب، بل يشتركون أيضا في مصالح مشتركة تتعلق بهم (الدخل، إعادة الانتخاب، الطموحات المهنية) والتنظيمية (الإعانات الحكومية، المحسوبية) والحفاظ على الذات، والأكيد أن هذه النخبة هي من تمسك بدواليب الحزب، وفي سبيل تحصين مصالحها وكسب رهاناتها ترى في مسالة الانتقال من المعارضة إلى الأغلبية الحكومية بمثابة الاستثمار السياسي والمادي الأجدى، وهي على استعداد كامل في تطويع أيديولوجية الحزب وخطابه مع مستلزمات الانتماء الحكومي.
وعليه فإن الأحزاب المغربية مدعوة إلى إعادة بناء مرجعياتها وأجنداتها بما ينسجم مع تحديات ومتطلبات المجتمع، وبما يكفل اعتماد أدوات وتقنيات تروم إلى اشراكه الفعلي في عملية صنع القرار، وإلا فإنها ستبقى حبيسة وضع تمخض فيه خطابات معارضة غير رشيدة وسلوك براغماتي/ مصلحي في السلطة، ودون اكتساب أي ثقة شعبية حقيقية.