الصادق العثماني: من الربا الجاهلي إلى البنوك المعاصرة.. قراءة شرعية مقاصدية في تحوّل العلة والصورة

الصادق العثماني: من الربا الجاهلي إلى البنوك المعاصرة.. قراءة شرعية مقاصدية في تحوّل العلة والصورة الصادق العثماني
يعدّ الربا من أبرز المفاهيم التي شكّلت محوراً أساسياً في البنية الأخلاقية والاقتصادية للشريعة الإسلامية. وقد ورد تحريمه في القرآن والسنة تحريماً قاطعاً بوصفه ممارسة مالية تُفضي إلى الظلم، وإلى تفاقم الفجوة بين الغني والفقير والقوي والضعيف، وإلى تفكك منظومة التكافل الاجتماعي. غير أنّ تطوّر المنظومة المالية العالمية وظهور البنوك الحديثة استدعى قراءة مقاصدية جديدة، تتجاوز الجمود في الألفاظ نحو إدراك العلل والمقاصد التي من أجلها نزل الحكم الشرعي.
فالقرآن الكريم حين قال: “يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة”، لم يكن يتحدث عن نسبة حسابية مجرّدة، بل عن ممارسة اجتماعية واقتصادية تؤدي إلى استغلال المدين، وإثقال كاهله، وتحويل حاجته إلى وسيلة للابتزاز. وكان الربا الجاهلي يقوم على مضاعفة الدين كلما عجز المقترض عن السداد، في دائرة لا تنتهي من التراكم الجائر الذي لا يقصد تنمية المال بل إهلاك الإنسان.
كما أنّ السنة النبوية عندما لَعَنَت آكل الربا وموكله إنما لعنتهما لما في هذه الممارسة من تدمير لمقاصد العدل، ومصادمة لآداب المعاملات، وتعطيل للتوازن الاجتماعي. فجوهر التحريم ليس شكلاً حسابياً، بل جوهر أخلاقي ينضبط بمنظومة مقاصدية تحمي الضعيف، وتمنع الأكل بالباطل، وتسدّ ذرائع الاستغلال.
وفي المقابل، فإن البنوك في صورتها المعاصرة ليست امتداداً للربا الجاهلي، بل مؤسسات مالية تقوم بوظائف خدمية واستثمارية وتنموية، وتعمل ضمن أنظمة رقابية صارمة، وعقود واضحة، وهياكل قانونية تمنع الاستغلال وتحقق الشفافية. وما يُسمّى “فوائد” في هذا السياق ليس ديناً يتضاعف على محتاج، بل تكلفة تشغيلية أو عائداً استثمارياً يدخل ضمن إطار اقتصادي لا تقوم فيه العلاقة على ابتزاز فرد لفرد، بل على علاقة تنظّمها الدولة والقوانين وتقاس بمؤشرات اقتصادية لا بمزاج الدائن.
إن الفقه المقاصدي حين ينظر إلى هذه الصورة يدرك أنّ العلة التي حُرّم الربا لأجلها—وهي الظلم والاستغلال والإضرار بالمدين—غير متحققة في أغلب صور المعاملات البنكية الحديثة. بل إن هذه المؤسسات أصبحت في كثير من البلدان من ضرورات الحياة التي يتوقف عليها حفظ المال، وتنظيم المعاملات، وصيانة الحقوق، وتسيير الاقتصاد. والشريعة في مقاصدها الكبرى جاءت لرفع الحرج، وتحقيق التنمية، وجلب المصالح، ومنع الفساد، وحماية الثروة من الضياع والاضطراب.
ثم إن تنزيل النصوص على الواقع يقتضي فهماً فلسفياً عميقاً للعلاقة بين المقصد والحكم؛ فالأحكام ليست قوالب جامدة، بل أدوات لتحقيق غايات. وإذا تغيّر الواقع المالي تغيّرت صورة التعامل التي تُنزل عليها الأحكام. فليس من حكمة الشريعة معاملة البنوك الحديثة بوصفها مؤسسات ربوية لمجرد تشابه في الأسماء، إذ إن مقاصد العقود، ووظائف المؤسسات، وآثار التعامل تختلف اختلافاً جذرياً عن الربا الذي جاء النص بتحريمه.
إن القراءة الشرعية المقاصدية المعاصرة تضع الإنسان في مركز العملية الاقتصادية، وتعتبر المال وسيلة لا غاية، وترى أنّ النظام المالي الذي يحفظ الاستقرار، ويمنع الفوضى، ويحقق التنمية، هو أقرب إلى روح الشريعة من الانغلاق على صور تاريخية لا وجود لها اليوم. ومن هذا المنظور، فإن التعامل مع البنوك، والاستفادة من خدماتها، والدخول في عقودها الاستثمارية والتمويلية، لا يدخل في الربا المحرّم ما دامت العلة التي نزل القرآن بتحريمها غائبة، وما دام النظام قائماً على الشفافية والعدل وتبادل المنافع. وتتضح شرعية هذه المعاملات من خلال القواعد الفقهية والأصولية التي تُعدّ من أعمدة الفقه المقاصدي، كقاعدة "العقد شريعة المتعاقدين" وهي قاعدة راسخة في فقه المعاملات، تُفيد أن ما يتفق عليه طرفان راشدان، دون ظلم أو غرر أو إكراه، يصبح ملزماً شرعاً ما دام لا يصادم نصاً قطعياً ولا مقصداً أساسياً من مقاصد الشريعة. والعقود البنكية اليوم تُبرم برضا كامل، وتُحدَّد فيها الالتزامات والحقوق بوضوح، مما يجعلها عقوداً معتبرة شرعاً، وقاعدة أخرى استنبطها الفقهاء من الحديث الشريف “المسلمون على شروطهم” جاء في الحديث الصحيح: “المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً”. والشروط البنكية المعاصرة—مثل رسوم الخدمات أو نسب العوائد أو شروط الإيداع والسحب—لا تُحلّ حراماً ولا تُحرّم حلالاً، وإنما هي ترتيبات تنظيمية ضرورية لضبط العلاقة المالية، تدخل في باب تنظيم المصالح لا في باب المحظورات الشرعية.
فالفقه المقاصدي يقرر أن الأحكام تدور مع عللها ومقاصدها وجوداً وعدماً. فإن انتفت العلة—وهي الظلم والاستغلال—انتفى الحكم المتعلّق بها. والبنوك اليوم لا تُمارس الربا الجاهلي بصوره القاسية التي كانت تدمّر الأسر وتستنزف الضعفاء. بل تقوم بوظائف تنموية واستثمارية وخدمية تُسهم في استقرار المجتمع وازدهاره، مما يجعل القياس عليها قياساً مع الفارق، إذ تختلف الصورة والعلّة والأثر. وبذلك يصبح الفقه المقاصدي ليس مجرد اجتهاد جديد، بل استعادة للروح الأصلية للنص، ووفاءً لحكمة الشريعة في بناء مجتمع عمراني إنساني متوازن، يربط بين النص والواقع، وبين القيم والاقتصاد، ويصون الإنسان من الظلم والاستغلال، ويتيح له أن يعيش في عالم معقّد دون أن يوضع في حرج أو تضييق لم يأتِ به الدين.
 
 
الصادق العثماني - أمين عام رابطة علماء المسلمين بأمريكا اللاتينية