محمد بوفتاس: أكتوبر الأسود في غزة.. مقاومة أم مصيدة؟

محمد بوفتاس: أكتوبر الأسود في غزة.. مقاومة أم مصيدة؟ محمد بوفتاس
منذ السابع من أكتوبر، دخلت غزة منعطفاً تاريخياً لم تمرّ به منذ عقود. ذلك اليوم الذي بدا في لحظاته الأولى انقلاباً في ميزان القوى، تحوّل سريعاً إلى نقطة مفصلية فتحت الباب أمام واحدة من أكثر الحروب تدميراً في القرن الواحد والعشرين. ومع توالي الأيام، لم تعد الأسئلة الكبرى مرتبطة بالحدث العسكري نفسه، بل بما حدث بعده: الحجم الهائل للدمار، التحولات السياسية التي فرضتها الحرب، إعادة تشكيل غزة سكانياً وجغرافياً، ونوعية المكاسب والخسائر التي يمكن استخلاصها من هذا المسار المعقد.
 
غزة التي كانت خنجراً في خاصرة الاحتلال لعقود، وجمهوراً صلباً يتشبث بالأرض رغم الحصار، تحولت خلال أشهر قليلة إلى فضاء مكسور الأطراف، تتنازع فيه القوى الدولية والإقليمية، وتعيد إسرائيل صياغته وفق منطق القوة لا منطق التاريخ. البيوت انهارت فوق أصحابها، الأحياء محيت من الوجود، المجتمع الذي كان يعاني أصلاً من هشاشة اقتصادية واجتماعية أصبح اليوم يعيش في فراغ وجودي. ملايين البشر وجدوا أنفسهم في خيام، بلا سقف ولا مستقبل، محاصرين بين ذاكرة المكان وواقع الزوال. السؤال الأول الذي يفرض نفسه هنا هو: ماذا ربح سكان غزة من أحداث أكتوبر؟ والإجابة المؤلمة أن الرصيد المادي والإنساني يكاد يكون صفراً. فقدوا الأرض التي دافعوا عنها، فقدوا أبناءهم، خسروا مصادر رزقهم، وانكسر بينهم ما هو أكثر من البنية التحتية: الروح الجماعية نفسها.
 
ومع ذلك، فإن الخسارة ليست واحدة الأبعاد. فبينما دفع السكان ثمناً وجودياً مرعباً، استعادت القضية الفلسطينية حضوراً لم تحظ به منذ الانتفاضة الثانية. تحولت فلسطين إلى قضية عالمية تتصدر الأخبار، وتتراجع معها الرواية الإسرائيلية الأخلاقية التي ظلت لعقود تحكم وعي الغرب. لأول مرة، خرجت جموع غربية بالملايين دفاعاً عن العدالة للفلسطينيين؛ لأول مرة أصبح الحديث عن الإبادة والتطهير العرقي لغة متداولة حتى داخل المنابر التي كانت تاريخياً أقرب إلى إسرائيل. لكن المكسب الرمزي، مهما كان كبيراً على مستوى الشرعية الأخلاقية، لا يمحو حجم الكارثة على مستوى الواقع.
 
بين الربح الرمزي والخسارة الواقعية توجد منطقة أخرى أكثر تعقيداً: سؤال “الفخ”. هل كانت أحداث أكتوبر خطأً استراتيجياً؟ أم كانت خطوة محسوبة انتهت إلى نتائج غير متوقعة؟ أم أن إسرائيل كانت مستعدة للحدث لدرجة أنها تركته يحدث أو غضّت الطرف عنه، كما يقول بعض الخبراء الأمنيين في الغرب؟ هذا السؤال، رغم خطورته، ليس مجرد تهويم سياسي أو نظرية مؤامرة. التاريخ العسكري مليء بالسوابق التي استُغلت فيها صدمات أمنية لتغيير خرائط سياسية بأكملها. والشيء المؤكد اليوم أن إسرائيل لم تتفاجأ بالحجم الذي ادعته، أو على الأقل لم تتعامل مع الحدث باعتباره فاجعة بقدر ما تعاملت معه باعتباره فرصة. الطريقة التي تحركت بها الآلة العسكرية الإسرائيلية، سرعة الانتقال من الرد إلى التدمير الشامل، واستعادة الخطط القديمة المتعلقة بإعادة هندسة القطاع ديمغرافياً وجغرافياً، جميعها تشير إلى وجود سيناريو جاهز كان ينتظر الشرارة المناسبة.
 
لا يمكن الجزم بأن إسرائيل صنعت أحداث السابع من أكتوبر، فهذا يحتاج إلى وثائق ودراسات مستقبلية، لكن من الممكن جداً أنها احتضنت الحدث، أو لم تمنعه وهي قادرة، لأنها أدركت منذ اللحظة الأولى أنه سيمكّنها من تطبيق ما فشلت فيه لعقود: ضرب حركة حماس، كسر مجتمع غزة، وخلق واقع جديد ينسجم مع طموحاتها الاستراتيجية. وهو ما يجعل أحداث أكتوبر تبدو، في أحد تفسيراتها، وكأنها “فخٌّ” لم يُنصب مباشرة، ولكنه اكتمل بمجرد وقوعه.
 
أما على مستوى الفاعلين الفلسطينيين، فقد دخلت حماس الحرب بحسابات صعبة. كانت تراهن على قلب الطاولة، على فرض معادلة جديدة في الصراع، وعلى إرباك إسرائيل وإعادة الاعتبار لفكرة المقاومة المسلحة. لكن الفارق الشاسع في القوة العسكرية، وغياب توازن الردع الحقيقي، جعل ثمن العملية يقع بالكامل على المجتمع المدني. حماس ربحت صورة تضامنية واسعة في الشارع العربي، وربما ربحت رمزية جديدة في الوعي الشعبي، لكنها خسرت الجغرافيا التي كانت تحكمها، وفقدت قاعدة اجتماعية لم يعد بإمكانها حمايتها أو إدارتها.
 
ومع امتداد الحرب، بدا واضحاً أن إسرائيل ربحت أكثر مما خسرته. ربحت تفكيك قطاع غزة، وربحت شرعنة تدخلها العسكري في نظر جزء من حلفائها، وربحت فرصة إعادة تشكيل الجغرافيا الفلسطينية بما يناسب مشروعها طويل الأمد. لكن هذه المكاسب لم تكن مجانية. لقد خسرت إسرائيل صورتها الأخلاقية عالمياً بطريقة غير مسبوقة، وتعرضت لضغط سياسي واجتماعي دولي، وواجهت تحديات داخلية أضعفت ثقة الجمهور بقيادته. ومع ذلك، فإن مقارنة الخسائر بالمكاسب تكشف أن إسرائيل هي الطرف الوحيد الذي تمكن من تحويل ما جرى إلى فرصة استراتيجية شاملة.
 
في المقابل، تعيش فلسطين اليوم بين ربحٍ رمزي عالمي ضخم، وخسارة واقعية مريرة على الأرض. القضية الفلسطينية استعادت مركزيتها، لكن الفلسطينيين فقدوا جزءاً من قدرتهم على الصمود في أرضهم. العالم بات أكثر وعياً بجوهر الصراع، لكن الميدان أصبح أكثر قسوة. وهنا يظهر سؤال المستقبل: هل يمكن تحويل المكسب الرمزي إلى مكسب سياسي؟ وهل يمكن إعادة بناء غزة بطريقة تضمن ألا تتحول إلى ساحة نفوذ دولي وإقليمي متنازع عليها؟
 
تبدو الصورة الآن معلقة بين الاحتمالات. ما حدث في السابع من أكتوبر لم يكن مجرد حدث عسكري، بل كان لحظة انفجار أعادت تشكيل الوعي العالمي، وأعادت أيضاً رسم حدود الخراب في غزة. إسرائيل استثمرت اللحظة إلى أقصى حد، وحماس دفعت ثمن حساباتها، وغزة تحملت الكلفة الأكبر. وما بين الخسارة الفادحة والربح الرمزي، يبقى السؤال الذي سيظل مفتوحاً لسنوات: هل كانت غزة المستهدَف الحقيقي منذ البداية، وهل كان كل ما جرى مجرد مفتاح لخطة كانت تنتظر اللحظة المناسبة لكي تبدأ؟ هذا السؤال لن يُجاب عنه بسهولة، لكنه سيظل يرافق كل تحليل سياسي جاد لما جرى ويجري، لأنه يعكس جوهر المأساة: أن غزة دفعت ثمن حدثٍ ربما لم تكن تملك خياراته، لكن وقائعه كتبت مستقبلها بطريقة لم تخترها.