شهد الفضاء الرقمي المغربي مؤخراً ظاهرة اعتقال عدد من المؤثرين الذين بنوا نجوميتهم على محتوى يفتقر للحد الأدنى من القيمة المعرفية أو الجمالية، وغالباً ما كان يساهم في نشر أنماط من السلوكيات الاستعراضية والتمثلات السطحية المقلقة والمخلة بالأخلاق والذائقة العامة. شهد الفضاء الرقمي المغربي مؤخراً ظاهرة اعتقال عدد من المؤثرين الذين بنوا نجوميتهم على محتوى يفتقر للحد الأدنى من القيمة المعرفية أو الجمالية، وغالباً ما كان يساهم في نشر أنماط من السلوكيات الاستعراضية والتمثلات السطحية المقلقة والمخلة بالأخلاق والذائقة العامة. إن هذا التدخل القضائي، الذي طال محتوى مشوباً بمخالفات (كالنصب والإخلال بالحياء، والقذف والتشهير ونشر الغسيل)، يمثل نقطة انعطاف إجبارية تُسقط القناع عن أزمة أعمق، بغض النظر عن دوافعه المباشرة. إنه يعيد طرح سؤال مركزي يلامس جوهر مسؤولية الدولة والمجتمع: هل يمثل هذا الإجراء يقظة متأخرة تُعنى بضبط فوضى رقمية تفاقمت على مرأى ومسمع، أم أنه محاولة لاستدراك تراكمات تاريخية تتصل بانهيار منظومات الحماية الثقافية والتربوية؟ نحن لا نقف أمام عرض عابر، بل أمام تعبير صارخ عن تحول سوسيو-ثقافي جذري مسّ الذائقة العامة وطبيعة التلقي ومعايير الاستهلاك الرمزي. ولهذا، فإن فهم ظاهرة اعتقال المؤثرين لا يمكن أن يتم إلا عبر مقاربة سوسيو- تربوية تحليلية، تنظر للحدث بوصفه مدخلاً لفحص البيئة التي سمحت لـ "التربية المفقودة" أن تُنتج هؤلاء النجوم.
ولأن فهم هذه الظواهر لا يستقيم دون استحضار التحولات العميقة التي عرفها النسق الاجتماعي في علاقته بالحداثة الرقمية، بات من الضروري اعتماد إطار نظري تركيبي يستجمع عدداً من المفاهيم التي أسهمت في تفسير هشاشة البنى التربوية وصعود أنماط جديدة من الفاعلين الرمزيين.
تشكّل الظواهر الرقمية المعاصرة، بما فيها صعود المؤثّرين وأنماط التلقي الجديدة داخل الفضاء الافتراضي، مجالًا معرفيًا يتجاوز قدرة المقاربات الأحادية على الإحاطة به. فالعالم الاجتماعي اليوم لم يَعُد يُدار بمنطق خطي أو بنيوي مغلق، بل أصبح يتأسس داخل فضاء شديد التعقيد، تتشابك فيه البنيات الاقتصادية والرمزية والتكنولوجية والنفسية. ولذلك فإن كل مقاربة نظرية منفردة لا تُمسك إلا بجانب من الحقيقة فقط، فيما تتطلب القراءة الشمولية بناء جهاز مفاهيمي مركّب يلتقط تعددية مستويات الفعل الرقمي.
من هذا المنطلق، نجد أن الأدوات التي قدّمها زيغمونت باومان، وجون بودريار، ومانويل كاستلز، وكريستوفر لاش، لا تعمل باعتبارها مدارس متعارضة، بل بوصفها عدسات تحليلية متكاملة تكشف عن أبعاد مختلفة للواقع ذاته. يشكل باومان مدخلًا لفهم هشاشة الروابط الاجتماعية في زمن "الحداثة السائلة" وما تولّده من توتر بين الهوية والاستهلاك، بينما يمنحنا بودريار فهمًا عميقًا للكيفية التي تتحول بها العلامات والصور إلى بدائل عن الواقع، مما يجعل الذات مستهلكًا لتمثيلات أكثر من كونها مستهلكة لموضوعات. أما كاستلز، فيؤسس أرضية لفهم البنية التحتية لهذا العالم عبر تحليله لمجتمع الشبكات، حيث السلطة تُمارَس عبر التحكم في التدفقات المعلوماتية أكثر مما تُمارس عبر المؤسسات التقليدية. ويأتي كريستوفر لاش ليكمل هذا البناء عبر تحليل أثر الثورة الرقمية في إعادة تشكيل بنية الوعي، وأساليب المعرفة، والحساسية الثقافية داخل المجتمع المعلوماتي.
إن جمع هذه المقاربات ليس خيارًا انتقائيًا أو ترفًا معرفيًا، بل هو ضرورة إبستيمولوجية لفهم الظواهر الحديثة؛ فـ"سيولة" باومان تُهيئ الشروط لانتشار "محاكاة" بودريار، وهذه الأخيرة لا يمكن فهم دينامياتها دون الإطار الشبكي الذي يقدمه كاستلز، بينما يكشف لاش التحولات الأنثروبولوجية والمعرفية التي تنتج عن هذا التفاعل المركب. بذلك، تتقاطع هذه المنطلقات النظرية في النتائج ذاتها، وتتضافر لتشكيل لوحة تحليلية لا تكتمل إلا بتواجدها جميعًا.
إن هذه الورقة البحثية تنطلق من اختيار نظري مركّب، يرى أن الظواهر الرقمية المعاصرة، ومن ضمنها صعود المؤثرين الرديئين وتحوّل الشهرة إلى سلعة وتنامي اقتصاد التفاهة، لا تُقرأ إلا عبر تقاطع الاقتصاد الرمزي، والهشاشة القيمية، والبنية الشبكية، والتحولات الإدراكية. ومن ثمّ، يصبح فهم هذا النموذج الجديد من الإنتاج الرمزي ممكنًا فقط ضمن نسق مفاهيمي متعدد يستوعب تداخل البنيات وتراكبها، بدءاً من مخرجاته الظاهرة كالاعتقالات الأخيرة، وصولاً إلى جذوره العميقة داخل المدرسة والأسرة والسوق الرقمية.
لتفكيك الظاهرة بعمق، ينبغي إدراك أن المؤثرين ليسوا فاعلين مستقلين، بل هم نتاج مكثّف لبنية سوسيو-اقتصادية وثقافية تتغير بسرعة. يبرز هنا تحلل المسارات التقليدية للترقي الاجتماعي، وتآكل الثقة في مؤسسات العمل والتعليم، في سياق يتميز بارتفاع حدة اللامساواة وتضخم ما يسميه بيير بورديو بـ "رأس المال الاقتصادي غير المؤطّر" مقابل تراجع رأس المالين الثقافي والاجتماعي اللذين كانا يشكلان سابقًا معيار الاندماج الاجتماعي.
لقد ساهم نمو "اقتصاد الظل" وتوسع مسالك الثراء السريع، سواء عبر شبكات الريع أو الأنشطة غير المهيكلة، في بروز طبقة مستجدة تبحث عن شرعنة حضورها الاجتماعي. وفي ضوء ما وصفه زيغمونت باومان بـ "آلة السيولة القيمية"، تحوّلت المنصات الرقمية إلى وسيلة مثالية لتعويض النقص في رأس المال الرمزي، عبر بناء صورة استعراضية للثراء يتم فيها استبدال الجهد المعرفي أو المهني بـ استراتيجية الظهور والمراكمة السريعة للمتابعين.
غير أن تحليل الظاهرة يكتمل حين ندرك أن المنصات الرقمية لم تعمل فقط على شرعنة الثروة الموجودة، بل أصبحت، في الآن نفسه، فضاءً لتوليد ثروة بديلة لأولئك الذين حُرموا من ولوج نظام الفرص التقليدي. بالنسبة للشباب ذوي رأس المال الثقافي والاجتماعي المحدود، يقدم الفضاء الرقمي ما يشبه “السوق الموازي للترقي”، حيث يغدو المحتوى الاستعراضي، بما يحمله من محاكاة وصور زائفة، فرصتهم الوحيدة لإعادة تشكيل الذات وصناعة حضور اقتصادي لا يمر عبر المؤسسات.
وهكذا، فإن نموذج النجاح السائد يتعرض لتشوّه مزدوج. يتمثل في شرعنة الثراء غير المؤسس عبر الاستعراض؛ وتعويض الفقر البنيوي عبر السعي إلى تحصيل “ثروة رمزية” تتحول لاحقًا إلى رأس مال اقتصادي داخل المنصة.
يتوازی هذا التشوّه الاقتصادي مع انهيار عميق في منظومة الذائقة العامة، وهو انهيار يُعزى إلى الفراغ الهوياتي والاجتماعي الذي يعيشه المتلقي داخل مجتمع شبكي، كما يصفه كاستلز، حيث تُختزل قيم الجمال والمعرفة إلى مجرد “مؤشرات تفاعل”. في هذا السياق، تصبح الخوارزميات، الفاعل الخفي في ما يسميه تريستان هاريس باقتصاد الانتباه، مرآة سلبية تعكس وتضخّم الرغبات الجماعية الأكثر سطحية، لأنها تكافئ الجدل والاستقطاب وليس العمق أو الجودة.
وبذلك، يظهر اعتقال المؤثرين كتدخل مؤسساتي متأخر يروم ضبط تداعيات هذه التشوهات الأخلاقية والاجتماعية، لكنه يظل عاجزًا عن لمس الدوافع الاقتصادية والنفسية التي دفعت إلى تبني نموذج النجاح القائم على الاستعراض، وعن معالجة البنية التي أنتجت القابلية للاستهلاك والتأثر بهذا الشكل من الرمزية الرقمية.
يظل الفشل الأكبر مرتبطاً بـ تراجع دور المؤسسات التربوية أمام الطوفان الرقمي، وهو ما نصفه بـ أزمة "التربية المفقودة". حيث تعاملت المدرسة مع التكنولوجيا كأداة تقنية محضة يجب إتقان استخدامها، وليس كبيئة ثقافية جديدة تتطلب أسساً معرفية وأخلاقية وقانونية لتأهيل المواطن الرقمي. هذا القصور المنهجي أدى إلى خلق فجوة عميقة في الوعي؛ فالمنظومة التعليمية لم تزود المتعلم بـ مهارات النقد الإعلامي والرقمي الضرورية. حين يغيب التعليم الذي يعلّم التحقق من المصادر، والتمييز الصارم بين المعلومة والإعلان، والفصل بين الواقع والتزييف البصري الذي تصنعه فلاتر الكاميرا، وحين ينعدم الوعي بالشفافية الخوارزمية، يصبح الفضاء الرقمي بيئة خصبة للالتباس والتضليل. فالمتلقي لا يدرك أن المحتوى الذي يُعرض عليه ليس حيادياً، بل هو نتاج آليات مصممة لاستغلال "سوق الانتباه". هذا الفراغ المعرفي انعكس مباشرة على الجانب القيمي والأخلاقي، حيث أدى غياب مناهج المواطنة الرقمية إلى هشاشة في الوعي بالحدود القانونية. هذا الأمر ترك الأسرة في مواجهة صعبة وغير مؤهلة، فتحولت من وسيط ثقافي مؤطر إلى متلقي عاجز أمام السلوكيات المستوردة، ليصبح الشباب فريسة سهلة لنماذج الشهرة والنجاح المُشوَّهة التي يروج لها المؤثرون.
في ضوء هذا التحليل البنيوي، يمكننا التأكيد أن الإجراءات المتخذة لاعتقال المؤثرين تمثل يقظة قضائية متأخرة لكنها حتمية لضبط حالة الفوضى الأخلاقية والقانونية في الفضاء العام. ومع التسليم بأن حماية الذوق العام وتأكيد سيادة القانون هو من صلاحيات السلطات، يجب أن يُنظر إلى هذه الإجراءات القانونية بحذر، لضمان أن تبقى مؤطرة بوضوح قانوني لا لبس فيه لا يُستغل لوضع خطوط حمراء أخلاقية غامضة قد تصبح ذريعة لحجب حرية التعبير المشروع أو تكميم الأفواه. إن الأطروحة تظل ثابتة. إن هذا التدخل لا يعدو كونه معالجة للعَرَض الظاهر. بينما تكمن العلة في استدراك التراكمات العميقة التي أنتجت الظاهرة، وهي تراكمات تتصل بـإفلاس المدرسة المغربية في أدائها لمهمة التنشئة الاجتماعية والرقمية، وتُعزى أيضاً إلى الإكراهات البنيوية التي تعيشها الأسر؛ حيث تواجه صعوبة قصوى في التحكم في زمن أطفالها الرقمي أو توفير بدائل مجتمعية وثقافية قادرة على منافسة جاذبية العالم الافتراضي.
والإجابة الحاسمة عن السؤال المركزي تكمن في أن الأزمة ليست سوى ثمرة "تربية مفقودة" وانحناءٍ مؤسّساتي أمام طوفان رقمي اجتاح كل شيء. وعليه، فإن مستقبل الثقافة الرقمية في المغرب لا يمكن أن يُبنى على الإجراءات الزجرية وحدها. يجب أن يتحول النقاش من دائرة "منع المحتوى" إلى دائرة "بناء الحصانة المعرفية". هذا يتطلب إطلاق سياسة وطنية واضحة وشاملة للتربية الإعلامية والرقمية تكون جزءاً لا يتجزأ من المناهج التعليمية، تركز على تدريس النقد الخوارزمي والأخلاق الرقمية منذ المراحل المبكرة. كما يستوجب الأمر دعمًا للمؤسسات الأسرية والجمعوية لتستعيد دورها كوسيط ثقافي قادر على خلق مسارات للنجاح والاعتراف خارج فخاخ الاستعراض الرقمي. إن نجاح المجتمع في هذه المرحلة سيتوقف على قدرته على استعادة "التربية المفقودة" كاستثمار استراتيجي في مستقبل الأجيال.