سعيد عاتيق: واقعية العدمية…

سعيد عاتيق: واقعية العدمية… سعيد عاتيق
لم يعد الحديث عن “العدمية” ترفا فلسفيا أو حالة مزاجية لشاعر مرهق؛ بل صار توصيفا دقيقا لواقع ينهش الناس من كل الجهات. ففي بلد تتراكم فيه الوعود مثل الغبار على رفوف مهجورة، وتتعاظم فيه الشعارات بقدر ما يتعاظم الفساد نفسه، يصبح السؤال مشروعا :
 هل ما زالت للواقع قابلية للفهم أم أننا نعيش زمنا لا تفسير له إلا بالعدمية و بس؟
فالفساد الذي كان يستحى منه يوما ما، صار اليوم يتبختر في وضح النهار، وكأنه يحظى بحصانة أخلاقية وسياسية.
 كيف لا، 
والعبثيون الذين يعبثون بالمصالح الوطنية يعيشون فوق القانون، لا يأبهون لمحاسبة ولا يخشون رقابة؟ والبرلمان، الذي يفترض أن يكون ضمير الأمة وصوت الناس، تحول إلى ركح تعرض فيه فصول مسرحيات صاخبة، مسرحيات لا ينقصها إلا البساط الأحمر والخاتمة الهزلية.
أما الرشوة، فتمشي الخيلاء في الإدارات والشوارع، كأنها ضيف شرف دائم في مؤسسات الدولة، مفتاح المعاملات وتفتح الأبواب وتمنح الامتيازات، بينما يقف المواطن البسيط في آخر الصف، يدفع من وقته وصبره ما لم يعد يملك منه شيئا
في هذا المشهد الكالح، تتربع المعاناة على منصة الوطن، تتصدر كل الفقرات وكل الفصول، من الاقتصاد إلى التعليم، ومن الصحة إلى العدالة. والمؤلم أن الجميع يعرف، والجميع يرى، والجميع ينتقد… لكن دون تغيير. 
نصرخ، نئن، نغضب، نكتب، نلعن الظلام… ثم نعود في اليوم التالي لنعيش النسخة ذاتها من العبث ذاته.
إنه انفصام جماعي لم يعرف له التاريخ مثيلا : رفض كامل للواقع، وامتثال  كامل لقوانينه. حالة من التناقض النفسي والاجتماعي تجعلنا بلا بوصلة: 
من نحن؟ ماذا نريد؟ وهل لا يزال لوجودنا الجماعي معنى نستدل عليه وسط هذا الركام؟
هنا تحديدا، تكتسب العدمية شرعيتها. ليست العدمية موقفا فكريا بقدر ما هي رد فعل على واقع حلف بحلوفووو و أصر  على أن يكون بلا معنى. إنها ليست دعوة للهدم، بل صيحة احتجاج ضد منظومة فقدت القدرة على الإصغاء. العدمية، في هذا السياق، ليست خيارا… بل نتيجة.
وإذا كانت العدمية قد تبدو للبعض انسحابا أو يأسا، فهي للبعض الآخر آخر ما تبقى من صدق فكري في زمن تدار فيه الحقائق بمكبرات الصوت، وتختزل فيه الشعوب إلى أرقام انتخابية وجداول محاسبية.
لسنا مجانين إذ نطرح أسئلة كالتي تقلقنا اليوم. المجنون هو من يرى العبث ثم يقنع نفسه بأن كل شيء بخير.
أما نحن، فنحاول فقط أن نفهم:
هل يمكن للواقع أن يستعيد معناه؟
أم أننا سنظل نعيش في وطن يطالبنا بالولاء… بينما يعاملنا كزوائد بشرية لا ضرورة لها؟
هنا يبدأ النقاش الحقيقي. وهنا، ربما، تنتهي واقعية العدمية… 
لتبدأ واقعية التغيير.
( ما كفات فيكم كلمة ولا غمزة من عين الحال )
 
 
سعيد عاتيق، حقوقي وفاعل جمعوي