عبد السلام بنعبد العالي: في خمسين رحيلها... حنة آرندت وتحولات الكذب من التوتاليتارية إلى الديمقراطية

عبد السلام بنعبد العالي: في خمسين رحيلها... حنة آرندت وتحولات الكذب من التوتاليتارية إلى الديمقراطية عبد السلام بنعبد العالي

وقائع جزئية تجعلنا عاجزين عن تمييز الأشياء وإدراك المعنى

 

تصادف اليوم الذكرى الخمسون لرحيل الفيلسوفة الألمانية حنة آرندت التي، ومن خلال تشريحها للأنظمة الشمولية وطرق تفكيرها وعملها، ولاسيما في أعمالها "أصول التوتاليتارية" و"الوضع الإنساني" و"في العنف" و"ما السياسة" و"أيخمان في القدس"، استطاعت رسم صورة دقيقة للسياسة والأيديولوجيا في القرن العشرين وما بعده.

بعد نشر الوثائق السرية لوزارة الحرب الأميركية (وزارة الدفاع وقتذاك) حول حرب فيتنام (أوراق البنتاغون) (Pantagon Papers) سنة 1971، التي كشفت أكاذيب إدارة ليندون جونسون، انكبت الفيلسوفة الألمانية حنة آرندت (14 أكتوبر/ تشرين الأول 1906- 4 ديسمبر/ كانون الأول 1975)، على التفكير في وظائف الكذب واستعمالاته. وقد بينت "أن الأسرار، أو ما يسمى في اللغة الديبلوماسية، الخبايا وألغاز السلطة وخداعاتها، وكذا التشويه المقصود والكذب الخالص، إن كل هذه الأمور التي تستخدم كأدوات للتمكن من تحقيق أهداف سياسية، أمور جرى بها العمل عبر التاريخ".

فالصدق لم يشكل قط فضيلة من فضائل السياسة، لهذا ترى آرندت أننا "إذا نظرنا إلى السياسة من منظور الحقيقة، فذلك يضعنا خارج التاريخ". بناء على ذلك، تدعونا أن ننظر إليها من وجهة نظر الكذب الذي هو وسيلة مبررة في الشؤون السياسية. فهو أداة مألوفة في يد الحكام، ووسيلة معترف بها لدى الديبلوماسيين، وبهذا المعنى فإنه كان دوما "أمرا مشروعا".

 

واقع تخضعه الأيديولوجيا

لكن في القرن العشرين، عرف الكذب تحولا في طبيعته، ذلك أنه بحسب آرندت "لم يكن يعني، في ما قبل، إلا أشخاصا بعينهم، ولم يكن يهدف إلى خداع العالم بأكمله"، لم يكن يرمي إلا إلى تغيير وقائع جزئية، لم يكن إلا "ثقوبا متناثرة في نسيج الوقائع"، "لم يكن تشويها يطول تحويل السياق الذي تتم فيه الأحداث بأكمله"، لكن، مع ظهور الأنظمة التوتاليتارية، تغيّر الوضع، وتغيّرت أبعاد الكذب، فغدا الواقع بكامله مغلّفا تكسوه الدعاية، وتخضعه الأيديولوجيا وتطوّعه. وكل ما يتنطع عن الخضوع، يُستغنى عنه، ويُلغى إلغاء. وفي مقابل محدودية الكذب الذي كانت تمارسه القنوات الديبلوماسية التي كانت تراعي سرية العمليات وتلوينات الخداع، صار الكذب يمارس على مرأى ومسمع من الجميع، وفي صدد أحداث ربما لا تخفى "حقيقتها" على أحد.

من جملة تلك التحولات التي عرفها الكذب، أنه صار يستعمل الحقيقة أداة. في هذا الصدد تشير آرندت إلى ما تصفه بـ"تقنية ميكيافيلية بامتياز"، وهي تعني فنا كان هتلر يتقنه على مستوى عال، وذلك بقوله الحقيقة مع علمه أن لا أحد من بين الجاهلين بالرموز المستعملة سيحمل أقواله محمل الجد، أي أن الأمر يتعلق بنوع من "التآمر في واضحة النهار"، الذي كثيرا ما اعتبرته آرندت بمثابة الصورة المجسدة للكذب الخاص بعصرنا الحالي، ويمكن تحديده كالتالي: النطق بالحقيقة بهدف خداع أولئك الذين يعتقدون بأنه ليس عليهم تصديقها.

لهذا، هي ترى أن الشكل الذي أصبح الكذب يتخذه اليوم، جعله يتجاوز الفرد والأخلاق ليطول الجماعة والسياسة فيعلق بالتاريخ. وربما كانت الحداثة مقترنة بهذا التحول الجذري الذي لحق طبيعة الكذب، والكذب السياسي على وجه الخصوص، حيث لم يعد، كما كتبت، "تسترا يحجب الحقيقة، وإنما غدا قضاء مبرما على الواقع، وإتلافا فعليا لوثائقه ومستنداته الأصلية".

لم يعد الكذب إذن إخفاء للحقيقة، وإنما صار إتلافا لها، لم يعد مكرا تاريخيا، وإنما غدا مكرا بالتاريخ. لعل أكثر آليات الكذب انتشارا في هذا الصدد هي ما يمكن أن نطلق عليه "أسطرة" التاريخ، وانتزاع الحدث من ملابساته وظروفه الخاصة لجعله بداية متكررة، و"ذكرى" لا تفتأ تحيا وتخلد.

 

أكاذيب "مشروعة"

تذهب آرندت أبعد من ذلك، فلا تقتصر على ما قامت به مختلف الأنظمة التوتاليتارية من تزوير للحقائق وغرس للكذب في العقول والمكر بالتاريخ نفسه، وإنما تتحدث عن الأكاذيب التي "أصبحت تعتبر أدوات ضرورية ومشروعة" في خدمة كل الفاعلين السياسيين مهما كانت الأنظمة التي يعملون في حضنها، فتمكنهم من تأويل الحدث نفسه بحسب ما تمليه مقتضيات الراهن ومتطلبات اللحظة. فالشكل المعمّم للكذب يمكن أن يلحق الديمقراطيات، مثلما لحق الأنظمة الشمولية: "فحتى في ما يسمى عالما حرا، يمكن لأمم بكاملها أن "تهتدي" بنسيج من الخداعات".

وفي هذا الصدد تنبغي الإشارة إلى الدور الذي أصبحت تقوم به وسائط الإعلام، والدعاية الرسمية وغير الرسمية، من تلوين للأحداث التاريخية وفق ما تتطلبه الحاجة، وما تستدعيه الظرفية. وهذا ما سهل إمكان الكذب الشامل، وهو إمكان لم يكن معروفا في ما سبق من العصور، "إنها الخطر الذي يتولد عن التدبير الحديث للوقائع، وهذا يصدق على الأنظمة الديمقراطية، مثلما يصدق على الأنظمة الشمولية".

من أجل ذلك، تعمل التربية في هذه الأنظمة على القضاء على القدرة على تمييز الصواب من الخطأ، والواقع من الخيال، وشيئا فشيئا "تحل سرديات وصور ووقائع مضادة جديدة محل الواقع الفعلي".

لقد غدا الكاذب المعاصر كاذبا محترفا، هذا يعني أنه يكذب على الوقائع، لكنه يكذب أيضا على نفسه. فلم يعد الكذب مجرد تقنية تصدر عن سبق إصرار ووعي، ذلك أنه يعمل في الواقع فيشوهه. فالكذابون سرعان ما يقعون ضحية ما يحيكونه من سرديات، خصوصا أن الكذب لا يقتصر على أن يسكن الخطابات والأقوال، وإنما يتجسد في صور.

 

"صدقية" الكذب

وهنا لا بد أن نؤكد الدور الذي أصبحت تلعبه الصورة في إضفاء طابع "الصدقية" على عمليات الكذب هذه. في هذا السياق تبين آرندت كيف أن عصر الصورة يصاحب بهوس الالتصاق بالواقع المباشر، واكتساب ما يمكن أن نطلق عليه "الصدقية ذات الأصل الاختباري": "كأن إنسان عصر الصورة، الذي يقدس الشفافية، قد تخلى عن كل مثل أعلى قد يكون بالنسبة إليه مصدر ردع وإكراه، فانطوى على نفسه بعيدا عن أي انفتاح على الخارج، وصار مكتفيا بعالمه الضيّق، ملتصقا بالمألوف الذي يعج بتمثلات تلتصق أشد الالتصاق بالواقع المباشر". وبهذا فإن الكذب قد يحل محل الحقيقة ويلبس لبوسها. "النتيجة التي تتمخض عن إحلال الكذب محل الحقيقة، ليس هو كون الكذب يُقبَل كحقيقة، ولا في كون الحقيقة تغدو كذبا، وإنما في كون المعنى الذي نهتدي به في العالم الواقعي، يُهدم ويُقضى عليه".

تجد هذه الآلية مكانا خصبا في الأنظمة الديمقراطية، لأن هذه الأنظمة تقوم على إبداء الآراء: فكل الآراء لها، في هذه الأنظمة، الحق في التعبير عن نفسها. تعتبر آرندت، على عكس الفلاسفة الإغريق، أن بادئ الرأي له دور أساس في الحياة السياسية. فتقاسم الآراء وتبادلها هو الذي ينسج العالم المشترك. وهو لصيق بالتعدد. تقول: "حقيقة الواقع دائما مرتبطة بكثرة وتعدد، وهي تعني أحداثا ووقائع ينخرط فيها عدد كثير، وهي تجد سندها عند شهود، ولا وجود لها إلا من حيث هي موضع خطابات وأقوال، فهي سياسية بطبيعتها. لذا، فإن الوقائع والآراء، رغم أننا ينبغي أن نميز بينها، لا تتعارض في ما بينها، فهي تنتمي إلى المجال نفسه". الوقائع الفعلية هي مادة الآراء، والآراء تُقبل ما دامت تستجيب للحقائق الفعلية. تبادل الآراء يستند إلى منطق المساواة، أي إلى السياسة، بينما الحقائق الفعلية لا تقوم على ذلك المنطق، وإنما تفرض علينا نفسها. "الوقائع تتجاوز الاتفاق والإجماع، وكل جدال حولها لا شأن له بقيام تلك الوقائع".

فنحن أحرار في آرائنا، لكن الرأي لا يتخذ معنى إلا في ارتباطه بواقعة، وهذا لا يحول دون قيام توتر بين الحقيقة الفعلية وآرائنا حولها. من هنا خطر استغناء الآراء عن الاحتكام إلى الوقائع وخوضها في تطويعها وتكييفها، بل وحتى تشويهها. حين تتعطل حقيقة الوقائع وتغيب، يفقد الجدال العمومي أرضيته ومرجعيته.

 

بين الواقع والحقيقة

هذا بالضبط ما تلاحظه آرندت في مجتمعاتنا المعاصرة: "بينما لم يسمح أي عصر من العصور السالفة بهذا العدد الوافر من الآراء حول القضايا الدينية أو الفلسفية، فإن الواقع الفعلي يلاقي اليوم عداوة تفوق كل العداوات السابقة". فلم تعد "الدهماء" تضع ثقتها لا في أبصارها ولا في آذانها، وهي تطلق العنان لخيالها الذي يعجب بكل ما هو عام شامل متسق". لذا يصبح الكذب "أشد إغراء وجاذبية من الحقيقة الفعلية، خصوصا أن الكاذب يحظى بمعرفة مسبقة بما يرغب فيه الجمهور، وما يتوقع سماعه. فكذبته تهيّأ بقصد توجيهها للجمهور لذا يُراعَى تصديقها، هذا في حين أن الوقائع تضعنا أمام ما يفاجئنا وما لا نتوقعه".

تستنتج آرندت: "لم تعد الحقيقة والكذب أمرين متعارضين في ما بينهما، فعندما غمر الكذب الحياة الجماعية، فإنهما صارتا مقولتين مختلطتين". نتيجة هذا الخلط، خلط بين الواقع والحقيقة، وهو ما ميّز الدعاية الفاشية في نظر صاحبة "أصول التوتاليتارية"، ذلك أن "السمة الجوهرية للدعاية الفاشية لم تكن أبدا تكمن في أكاذيبها، لأن الكذب سمة شائعة إلى حد ما في الدعاية في كل مكان وكل زمان. ما استغلته هذه الدعاية في الأساس هو التحيز الغربي القديم الذي يخلط بين الواقع والحقيقة، مما جعل ما كان غير ممكن حتى ذلك الحين فيُعطى على أنه كذب، يبدو "صحيحا".

لهذا السبب، ترى آرندت أن أي جدال ضد الفاشيين - ما يسمى بالدعاية المضادة – لا معنى له: فـ"الأمر، كما تقول، يشبه مناقشة قاتل محتمل حول ما إذا كانت ضحيته المستقبلية على قيد الحياة أم ميتة، مع نسيان تامّ أن الإنسان قادر على القتل، وأن القاتل، بقتله للشخص المعني، يمكنه في أي لحظة إثبات صحة ادعائه. بهذه الروح دمر النازيون ألمانيا - لإثبات أنهم على صواب".

لم تختف هذه الآليات في الأنظمة الديمقراطية، وإنما اتخذت أشكالا أقل فجاجة. فإذا كانت الأنظمة الشمولية مارست عنفا صريحا على الحقيقة، فإن الديمقراطيات المعاصرة طورت تقنيات أكثر رقة. فلم يعد الكذب عندها يحتاج إلى أفران محارق للمستندات، بل أخذ يكتفي بالطوفان الإعلامي الذي يغرق الحقيقة دون أن يحرقها. وعندما "تغرق" الحقيقة و"يكذب عليك الجميع على الدوام، فإن نتيجة ذلك ليس في أنك لن تؤمن بهذه الأكاذيب، وإنما في أنك، لا أنت ولا أي أحد سواك، ستثقون بأي شيء. والشعب الذي لا يثق في أي شيء، لا يمكنه أن يكوّن رأيا من الآراء. فهو لا يكون محروما من القدرة على العمل فحسب، وإنما حتى من قدرته على إعمال الفكر وإصدار الأحكام. حينئذ يمكننا أن نصنع بهذا الشعب ما نشاء".

حنة آرندت

الكذب "الظريف"

 

ههنا لا يعود الكذب محتاجا إلى صخب وتدليس وإخفاء. إنه يصبح كذبا "سلميا" "ديمقراطيا"، كذبا "سلسا" لا يحتاج إلى "إتلاف وثائق وإحراق مستندات"، ولا حتى الى "قضاء مبرم على الواقع"، ليكتفي بالانشداد إلى الراهن، وتفتيت الأحداث، وحلها إلى وقائع جزئية تغيّب معناها.

لعل هذا هو ما أصبح يشكل في حياتنا المعاصرة نوعا من "الكذب الظريف" الذي لا يبدو أنه محتاج إلى قضاء على الواقع، وإنما يكتفي بإذابة دلالاته. فكأن الكذب لم يعد إتلافا للحقيقة، وإنما أصبح إتلافا للمعنى. ذلك أننا لم نعد اليوم عاجزين عن تصديق ما يقع أو تكذيبه، وإنما أصبحنا عاجزين عن "فهمه" واستيعابه، لأننا أصبحنا، كما قالت آرندت "لا أبصار ولا آذان لنا".

هذا بالضبط هو الشكل الجديد للكذب الذي أصبحنا نعيشه، والذي تكرسه وسائل الإعلام الحديثة التي تجعل البديل يحل محل "الشيء نفسه"، فتعمل على تغييب الواقع، وتلاحق تطور الأحداث لتجعل منها راهنا دائما، و"عاجلا" لا يتوقف، ووقائع جزئية لا تنفك تتلاحق، وتجعلنا عاجزين، لا عن تمييز الصدق من الكذب فحسب، وإنما حتى عن تمييز الأشياء عن بدائلها، وتبيّن الدلالات، وإدراك المعاني.

عن مجلة:" المجلة".