عبدالرفيع حمضي: محجّ الرياض… لحظة اختبار!

عبدالرفيع حمضي: محجّ الرياض… لحظة اختبار! عبدالرفيع حمضي ومحجّ الرياض
المدن، في مسارها، تعيش لحظات دقيقة تكشف بعض فضاءاتها بين الفينة والأخرى حاجتها إلى التفاتة خاصة. لا لأنها تتعثر، بل لأنها تنمو وتتوسع بسرعة، وتحتاج إلى يقظة تُرافق هذا النمو. والرباط، التي أصبحت اليوم واحدة من أهم العواصم الإفريقية والعربية، سواء من حيث التنظيم العمراني أو جودة الحياة، ليست استثناءً. فكل مدينة كبيرة تواجه تحديات، وإن كانت صغيرة في حجمها، فإن الالتفات إليها مبكرًا يقي من تحوّلها إلى تفاصيل هامشية متفاقمة.
ولعلّ محجّ الرياض واحد من هذه الفضاءات التي تستحق لحظة تأمّل، لا لوجود خلل بنيوي، ولكن لأن الحركة الكثيفة التي يعرفها، وتنوّع زواره، وتغيّر طبيعة روّاده بين النهار والليل، تجعل منه فضاءً حساسًا يحتاج إلى متابعة دائمة تواكب مكانته ودوره في قلب العاصمة.
ففي الصباح، يفيض الشارع بموظفي الإدارات العمومية والبعثات الدبلوماسية ومستخدمي الشركات، حيث تتعانق خطوات المارة مع رائحة القهوة وإيقاع يوم يبدأ بهدوء. وعند الظهيرة، تتحوّل المقاهي إلى فسحات لالتقاط الأنفاس قبل استئناف العمل، في مشهد يُجسّد الحيوية الإدارية التي تميّز الحي.
لكن المدن لا تُقاس فقط بنهاراتها، بل أيضًا بما يكشفه المساء حين تتغيّر الوجوه وتتحرك الظلال، وينسحب الضوء فتتحرك بسهولة “خفافيش الهشاشة” في ما يسميه مانويل كاستلز “الفراغات الرمادية”. حينها لا نرى مجرد تغيّر في طبيعة الروّاد، بل نلمح حضور قاصرات وقاصرين في هذا الفضاء وفي هذا التوقيت، وهو ما لا يحدث تلقائيًا؛ بل يشير إلى أيادٍ خفية تُوجّه وتستغل وتدفعهم إلى الواجهة، في نمط يؤكد أن المسألة ليست سلوكًا فرديًا ،بل جزءًا من شبكات تتاجر بالهشاشة وتحولها إلى مشهد يومي. وهنا تتضح الخلاصة: لسنا أمام حرّيات أفراد، بل أمام استغلال ممنهج لقاصرين لا يملكون قرار أنفسهم.
بل إن جزءًا من هذه الملاحقات، بل والمساومات، لا يتم في الشارع فقط؛ بل يجد له موطئ قدم داخل المقاهي والمطاعم وبعض الفضاءات السياحية في المنطقة، حيث تتحوّل الطاولات الجانبية والزوايا الهادئة إلى سوق صامت. وهنا لا بد من التأكيد بوضوح إلى أن أصحاب هذه المنشآت،بما لهم من حضور وتأثير، يتحمّلون جزءًا من المسؤولية، الأخلاقيةً والقانونية ، لأن حماية الحي وروّاده تُبنى أيضًا بيقظة الفاعلين الذين يستفيدون من نبض المكان.
فالمحجّ، بحكم موقعه وتنوع جنسيات زواره، أصبح فضاءً مغريًا للشبكات التي تعرف جيدًا أن الحركة المختلطة توفر لها غطاءً مناسبًا، بعيدًا عن السياحة وبعيدًا عن روح الضيافة المغربية.
وفي تاريخ المدن، هذا النمط ليس جديدًا؛ فقد شهدت برشلونة وتونس وباريس بدايات مشابهة حين تُرك القاصرون من الجنسين يملؤون “الفراغات الرمادية”، قبل أن تكشف التحقيقات لاحقًا أن الأمر أكبر من مجرد سلوك فردي. واليوم، في محجّ الرياض، يُدفع بالصغار إلى الواجهة بينما يختفي الكبار الذين يحرّكون الخيوط من الخلف.
وإذا كانت بلادنا قد بنت منظومة قانونية ومؤسساتية لمكافحة الاتجار بالبشر، بدءًا من قانون 27.14، مرورًا باللجنة الوطنية للتنسيق، وصولًا إلى الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الاتجار بالبشر، فإن القانون، مهما كان متقدمًا، يبقى ناقصًا إذا لم تُلتقط العلامات الأولى في الميدان. فالعمران، كما يقول ابن خلدون، ليس حجارة فقط، بل منظومة قيم تمنع سقوط الأضعف.
لهذا كلّه، فالمسؤولية مشتركة: على الأسر أن تواكب أبناءها، وعلى المؤسسات أن تعمّق الرصد وتتابع مؤشرات الهشاشة، وعلى الإدارة أن تتصدى وتُطبق القانون. فالمدينة التي تفقد قدرتها على حماية أطفالها، تفقد شيئًا من روحها.
إن محجّ الرياض ليس في أزمة، لكنه في لحظة اختبار. اختبار لمدى وعينا الجماعي بأن حماية الفضاء العام مسؤولية يتقاسمها الجميع، وأن الذين يظهرون في المساء ليسوا مشهدًا عابرًا، بل سؤالًا أخلاقيًا يمتحن المدينة وسكانها على حدّ سواء. فالمدينة تُقاس في النهاية بقدرتها على صون براءة صغارها… لا بواجهاتها الجميلة فقط.