عبد العزيز الخبشي: تيسة.. حيث تصنع الصورة على أنقاض العطش والفقر

عبد العزيز الخبشي: تيسة.. حيث تصنع الصورة على أنقاض العطش والفقر عبد العزيز الخبشي
ليس من قبيل المصادفة أن يختار رئيس الحكومة ورئيس حزب التجمع الوطني للأحرار السيد عزيز أخنوش مدينة تيسة التابعة لإقليم تاونات بالضبط لتنظيم لقائه التواصلي المخصص لحزبه لجهة فاس–مكناس، ولا هو قرار بريء أو تقني كما تحاول لغة البلاغات الحزبية أن تصوره. السؤال الذي يتداوله الرأي العام بإلحاح: لماذا تيسة؟ ولماذا لم يتم إختيار إقليم بولمان مثلا الذي ينتمي إليه المنسق الجهوي لحزبه؟ ولماذا تجاوز مدينتين كبيرتين ومركزيتين بالجهة وذلك بحجم فاس ومكناس؟ الجواب لا يحتاج إلى كثير من التأويل، فخيوطه واضحة لكل من يتابع ديناميات المشهد السياسي وميكانيزمات استثمار الهشاشة في صناعة المشهد الانتخابي.
 
إن اختيار "تيسة" بإقليم تاونات لم يأت من فراغ، بل لأنه يسهل - وبأقل كلفة سياسية- تعبئة الساكنة القروية المحيطة بها ومن قرى أخرى بالإقليم، تلك الساكنة التي أنهكتها سنوات من التفقير الممنهج وسياسات التقشف التي اعتمدتها الحكومة الحالية. فالسلطة التي لا تستطيع فرض احترامها في المدن الكبرى، تلجأ حيث يكون الناس أكثر هشاشة وأكثر قابلية للاستجابة لخطاب الوعد والوعيد، وحيث يشكل الحضور "الوافد" أداة لإنتاج المشهد التلفزيوني الذي يريده المسؤولون الحزبيون: جماهير غفيرة، زغاريد، لافتات جاهزة، وتصفيق يوحي بأن رئيس الحكومة والذي هو رئيس الحزب وفريقه محبوبان ومطلوبان. إنه مشهد يشتغل وفق منطق المسرح السياسي لا منطق الحقيقة الاجتماعية.
 
تيسة ليست مجرد موقع جغرافي، بل هي رمز لأزمة عميقة. فقد كانت هي ومحيطها من أولى الضحايا الفعلية للسياسات الحكومية، وأبرزها أزمة العطش التي عان منها مركز المدينة، وباقي جماعات الدائرة والإقليم عامة. أزمة العطش التي أخرجت دواوير جماعة بوعروس التابعة لدائرة تيسة عن بكرة أبيها في عز الصيف الماضي، حين خرج الشيوخ والأطفال والشباب في مسيرة احتجاجية مشيا على الأقدام نحو مقر ولاية فاس للمطالبة بأبسط حقوق الحياة: الماء الصالح للشرب. مشهد لم ينسه أحد. فكيف لحكومة عجزت عن تزويد الناس بالماء أن تأتي اليوم لتلقي عليهم خطبة في التنمية وفي تقديم انجازاتها؟ وكيف لمواطن ذاق مرارة العطش أن يتحول فجأة إلى متحمس لمهرجان الخطابات؟
 
لكن الدولة الحزبية تعرف جيدا أين تلتقط الصورة، وأين يمكن التحكم في الحشود، وأين يمكن إخراج اللقاء في شكل “نجاح جماهيري” حتى لو كان ذلك النجاح مصطنعا. ولهذا لم يقع الاختيار على مركز من مراكز إقليم بولمان، رغم أن المنسق الجهوي ينتمي إليه. فإقليم بولمان إقليم صعب، مهمش وفي نفس درجة إقليم تاونات، وإلى درجة لا يستطيع معها توفير الحشد المطلوب لإخراج اللقاء بالصورة التي تريدها قيادة الحزب. الساكنة هناك خارج أي منطق زبوني، ولا يمكن استمالتها بسهولة، لأنها تعيش تهميشا مطلقا يجعلها غير قابلة للانخراط في لعبة “الحضور من أجل الصورة”. ولذلك تم تفاديه.
 
أما مدينة فاس و ومدينة مكناس، فهما عاصمتان جهويتان لهما إيقاعهما الخاص. المدينتان لا تقبلان الاستعراض السياسي السهل. فالحضور سيكون أقل، والخطاب سيكون أكثر إحراجا، والفضاء المدني أكثر نقدا ووعيا. إن المدينتين غير مناسبتين لاستعراض القوة وتقديم حصيلة منجزات باهتة. لذلك تم تجاوزهما عمدا. ففي المدن الكبرى، لا يكفي رفع اللافتات أو الضغط على المنتخبين المحليين لتعبئة الجماهير. هناك رأي عام أكثر صلابة، وفضاء معارض قادر على التشويش، ونباهة سياسية تجعل أي محاولة للتجميل مكشوفة.
 
وبالتالي يظهر أن اللقاء لم يكن فعلا تواصليا بالمعنى الديمقراطي، بل كان جزءا من استراتيجية التحكم في الصورة. صورة زعيم سياسي “محبوب” وسط جماهير “غفيرة”، تلتقط في منطقة تعرف هشاشة اجتماعية كبيرة، حيث يمكن حشد الناس بسهولة أكبر بسبب غياب البدائل، وسط فقر يجعل الحضور نفسه نوعا من “الحدث”. إنها صناعة للمشهد لا أكثر، محاولة لرسم صورة وردية حول أداء حكومي باهت، وفشل تنموي واضح، وقرارات تقشفية عمقت الفوارق وصادرت القدرة الشرائية، ودفعت مناطق بأكملها إلى الاحتجاج طلبا للماء، وهو الحد الأدنى لكرامة الإنسان.
 
إن اختيار تيسة يكشف عن فلسفة حكم وليس مجرد محطة حزبية. فلسفة تراهن على استثمار الهشاشة بدل معالجتها، وعلى صناعة الإجماع الزائف بدل الإنصات الحقيقي، وعلى تعبئة الفقراء من أجل تجميل صورة الأغنياء. منطق يجعل من اللقاءات التواصلية مناسبات لتزيين الواقع بدل تغييره. ولذلك سيبقى السؤال الأخلاقي معلقا: هل يحق لمن فشل في توفير الماء أن يطالب الناس بالتصفيق؟ وهل تليق ببلد يطمح إلى التنمية أن تتحول قرى العطش إلى منصات إعلامية لخطابات سياسية لا تقدم حلولا ولا تعترف حتى بالأزمة؟