إن الجدل الدائر اليوم في الأقاليم الجنوبية بشأن الحدود الجغرافية لهذه الأقاليم ليس مجرد اختلاف سياسي عابر، بل هو جرس إنذار خطير يكشف أن مشروع الحكم الذاتي ما يزال مُعلَّقًا بين أيدي نخب جنوبية ضعيفة وغير قادرة على الارتقاء إلى مستوى المرحلة.
رغم أن واد نون شكّلت تاريخيًا جزءًا أصيلًا من الامتداد البظاني ونقطة تلاقي للصحراويين، فإنها بقيت خارج الجغرافيا المعتمدة في اتفاق مدريد سنة 1976. وقد يعود ذلك إما لثغرة دبلوماسية غير مقصودة أو الأرجح اليوم إلى عجز نخب واد نون وضعفها في تحويل رصيدها التاريخي إلى قوة سياسية فاعلة داخل المشروع التنموي منذ عقود
جغرافيا واضحة… ونخب تائهة.
الجدل الأخير لم يكشف فقط ضيق الفهم الجغرافي والإداري، بل فضح أيضًا انقسامًا عميقًا داخل النخب الصحراوية في مختلف الأقاليم: نخب في وادنون والساقية الحمراء غير قادرة على صناعة القرار، ونخب وادي الذهب متفرجة من خارج لوحة القيادة، بعد أن فقدت نفوذها وأصبحت خارج دائرة الاستشارة بسبب ضعفها..
ومع غياب تدخل قوي لدولة للحفاظ على نجاحات الدبلوماسية المغربية تحت قيادة الملك محمد السادس، تحوّل مشروع الحكم الذاتي إلى ورقة مزايدات وصراعات داخلية بين وادنون والساقية الحمراء. بينما بقيت جهة الداخلة رغم أهميتها الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية الحلقة الأضعف في هذا التنافس الحزبي الهزيل، تشاهد من بعيد مشروعًا مستقبليًا بعيون نخب بلا مستقبل.
لقد أظهر الجدل أننا أمام مشهد مضطرب: نخب تدافع عن نفوذها، وأخرى جنوبًا غارقة في سبات عميق… هذا هو واقع نخب جهة وادي الذهب اليوم.
فاقد الشيء لا يعطيه.
فالمشكلة ليست في حدود الجغرافيا، بل في حدود التفكير.
ليست في سؤال “من ينتمي؟” بل في سؤال “من يُقصي؟”
وللأسف، أهل وادي الذهب ضمن قائمة الحاضرين جغرافيا و المقصيين سياسيا، بعد أن أصبحت نخبتها متهالكة ومتخاصمة فيما بينها.
وليست الأزمة في مشروع الحكم الذاتي ذاته، بل في من يحكم من؟ ومن يسير من؟ حتى بلغ ببعضهم القول: “أهل وادي الذهب لا يوجد فيهم من يصلح لا للحكم ولا للتسيير.”
الحكم الذاتي… لا يُبنى بالاحتكار ولا بالتهميش
إن مشروع الحكم الذاتي لا يمكن أن يُبنى على الاحتكار والتهميش وإعادة تشكيل الانتماء وفق معيار العشيرة.
بل يُبنى على الكفاءة والطاقات الشبابية في الأقاليم الجنوبية، تلك الكفاءات القادرة على الرهان، لكنها محرومة ومقصية من حقها في تسيير الشأن المحلي.
الوديان الثلاثة… عمود واحد لا ينفصل.
لثام لكحل أو عظم بلا مفصل
تمثل واد نون، الساقية الحمراء ووادي الذهب جسدًا واحدًا متماسكا تاريخيا.
واد نون: خزان بشري واعٍ ومثقف ومنتج، قادر إن مُنح الفرصة على رفع اقتصاد الأقاليم الجنوبية الثلاثة.
الساقية الحمراء: منطقة غنية بثرواتها ونضج مجتمعها.
وادي الذهب: تملك ثروة اقتصادية هائلة، رباعية الأبعاد لكنها فقيرة في النخب، وفي التنسيق، وفي النضج الاجتماعي والسياسي، ومغمورة بصرعات داخلية لا تنتهي.
نحن أمام حقيقة مرّة: نخب الجنوب: سنوات من النفوذ والطمع… واليوم خارج الاستشارة. الحكم الذاتي: محتكر من طرف نخبة ضعيفة، فاسدة، وعاجزة عن حماية نفسها… فكيف ستحمي مشروعًا بهذا الحجم؟
والواقع أننا للأسف لسنا ناضجين بعد للانتقال إلى مرحلة الحكم الذاتي.
فالجنوب ما يزال بحاجة إلى “رعاية مركزة” قبل الدخول في نظام يتطلب وعيًا، ونضجًا، وتكاملًا بين كل المكونات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية.
من لم يرَ الخنفوسة في رحلته إلى البادية… لا ينتمي إلى الصحراء الغنية الفقيرة .
الخنفوسة تقول بصوت واضح:
حدود الجغرافيا أرحم من حدود تفكير النخب.