مسرحية "قايد الواد"... بنية المجتمع بين منطق القوة وصوت الهامش

مسرحية "قايد الواد"... بنية المجتمع بين منطق القوة وصوت الهامش يشكل فضاء الزاوية في العرض تمثيلا لبنية اجتماعية بديلة
شهد المسرح الوطني محمد الخامس بالرباط ليلة الإثنين 24 نونبر 2025 عرضا مسرحيا ممتعا ينطوي على رؤية درامية مشبعة بالأبعاد الاجتماعي، حيث قدمت فرقة أرلكلان مسرحية “قايد الواد” كفضاء تمثيلي يعيد تفكيك بنية السلطة والعلاقات الإنسانية انطلاقا من منطق السهل الممتنع الذي يجعل المسرح مرآة للواقع وآلية لفهمه. فمنذ الدقائق الأولى، بدا أن العرض يتعدى الاشتغال على المستوى الجمالي الصرف والصور النمطية الجاهزة، حيث يسعى لممارسة وظيفة اجتماعية تتجاوز حدود المتعة اللحظية، ليدخل في صميم إنتاج النسق المسرحي الممتع ومساءلة البنى التي تؤطر وجود الإنسان داخل هذا النسق الاجتماعي حيث يمزج بين القهر، والرمزية، والرغبات غير الغريزية غير المرئية.
جمالية المسرحية تقوم، كما أرادها مؤلفها ومخرجها الشاب المبدع عمر جدلي، على تحليل العلاقة بين الفعل الإنساني والبنية السلطوية التي تحيط به، فالقايد بوعلام ليس مجرد شخصية درامية، بل تجسيد لأنموذج السلطة التقليدية كما تحفظها الذاكرة الجماعية المغربية في الموروث الثقافي سلطة أبوية، عمودية، متضخمة بذاتها، تمارس عنفها من خلال آليات رمزية ومادية في آن واحد. هذه الشخصية لا تقرأ داخل حدود الحكاية، بل ضمن سياق اجتماعي يشكل فيه القايد مركز القوة، بينما تشكل الدوائر المحيطة به فضاء مضادا، يشتغل بوصفه مؤسسة اجتماعية تنتج توازنات بديلة، وتحتضن المظلومين، وتعيد توزيع الأدوار على قاعدة القيم الإنسانية.
الصراع بين القايد وسلام ويامنة ومعروف ليس صراع أشخاص، بل صراع أنظمة. إنه صراع بين السلطة بوصفها بناء فوقيا متصلبا، والحب بوصفه فعلا اجتماعيا نبيلا يعيد ترتيب العلاقات الإنسانية خارج منطق القوة والسيطرة، ومن هذا المنظور، تبدو المسرحية بمثابة تحليل سوسيولوجي لآليات اشتغال العنف الرمزي، لذا حين يرفض القايد قبول اختيار يامنة، يمارس عنفا يراد له أن يبدو شرعيا داخل منظومة سلطته. يقتل سلام لأن النظام الرمزي الذي ينتمي إليه يبيح له ذلك، ويخفي ابنه معروف لأنه لا ينسجم مع صورة الذات المتعالية التي يسعى لتثبيتها في الوعي الجمعي. فالقبح هنا ليس قبح الجسد، بل قبح السلطة التي ترفض الآخر المختلف و إن كان جزأ من الحقيقة .
في المقابل، يشكل فضاء الزاوية في العرض تمثيلا لبنية اجتماعية بديلة، تعتمد التضامن والبحث عن الأفق الحر. فهي مؤسسة حاضنة، تعيد إنتاج العلاقات الإنسانية بطريقة تتجاوز منطق السلطة.
دخول سلام إلى الزاوية متخفيا في شخصية “مبروك” يعكس انتقاله من دائرة القهر إلى دائرة الوجود، ومن منطق العنف إلى منطق الرمز. هذه الحركة من مركزية السلطة نحو الهوامش تظهر كيف يستطيع المهمشون بناء شرعيتهم الاجتماعية الخاصة، بعيدا عن سلطة المركز. فسلام لا يعود ضحية فقط، بل يتحول إلى فاعل، يجمع بين تجربة الألم وقدرة الفعل الاجتماعي داخل فضاء جديد يمنحه موقعا متقدما في مسار الأحداث.
من جهتها، تقدم شخصية يامنة بوصفها حاملة لهوية مزدوجة من امرأة تعيش داخل بنية تقليدية تحدد خياراتها، لكنها في الوقت نفسه تمتلك القدرة على مقاومة الانخراط في نظام السلطة ورفضها الارتباط بالقايد ليس موقفا عاطفيا فقط، بل فعل مقاومة اجتماعية يتحدى نظام الهيمنة. ولا تقف عند حدود الرفض، بقدر ما تمثل رمزا للاستقلالية في مجتمع تحاول فيه السلطة التحكم في مصائر الأفراد تحت غطاء الشرعية. وهكذا تصبح يامنة مركزا دلاليا يبنى حوله الصراع، باعتبارها محورا لأسئلة الاختيار والوكالة الفردية في مجتمع متداخل البنى.
أما شخصية معروف فتمثل ابن السلطة المخفي، صاحب الجسد المختلف الذي قررت البنية السلطوية إخفاءه لأنه يشكل تهديدا لأسطورة القوة وإنه صورة للذات المهمشة، تلك التي توأد رمزيا في حفرة اجتماعية قبل أن تدفن فعليا وحين يدخل زاوية الضوء فهو لا ينضم إلى جماعة فقط، بل يدخل إلى فضاء يعيد تكوين الذات عبر آليات الاعتراف والاحتضان وبداية حبه ليامنة يعد تحولا طبيعيا إلى آلية لإعادة إنتاج ذاته كفاعل اجتماعي، وليس كموضوع لعنف السلطة. إنه يمثل الآخر الذي يعاد إدماجه عبر الدينامية الاجتماعية الجديدة التي تنتجها رابطة الحب، في مقابل دينامية السلطة التي تعتمد الإقصاء.
على مستوى البناء المسرحي، اشتغل عمر جدلي وفق مقاربة واضحة تجعل فضاءات المسرحية مكتنزة بالصور الدرامية حيث المكان ليس مجرد خلفية، بل عنصر بنيوي في صياغة العلاقات. القلعة تمثل الفضاء الطبقي المغلق الذي يحتكر السلطة، بينما تمثل الزوايا الضوئية فضاءات عمومية تتيح إمكانية إنتاج علاقات تنبني على المشاركة في الفعل ورد الفعل. هذا التمييز المكاني لم يقتصر على توظف لخده الرؤية الجمالية للمخرج ، بقدر ما يترجم رؤية فريدة تقول إن الفضاء ينتج الفعل كما ينتج الهوية.
أما على مستوى الأداء، فقد شكل حضور عبد الرحيم المنياري وجواد العلمي وحميد مرشد ومونية لمكيمل بنية تمثيلية متماسكة نجحت في تحويل الشخصيات إلى تمظهرات لسلطة، أو مقاومة، أو ألم مشترك حيث الممثل هنا ليس مشخصا ناقلا للنص، بل فاعلا يعيد إنتاج الخطاب الاجتماعي داخل الجسد، داخل الحركة، داخل الإيماءة ومن خلال الغناء المكمل للمعنى، فالجسد في المسرحية ليس أداة تمثيل، بل أداة تحليل. يكشف هشاشة السلطة في ارتباكها، ويكشف قوة المهمشين في قدرتهم على تحويل الألم إلى فعل اجتماعي.
ورغم أن المسرحية تعتمد على نفس كوميدي في أغلب المشاهد، إلا أن هذه الكوميديا ليست مبتذلة، بل آلية لكشف المفارقات التي تصنعها البنى التقليدية حين تفرض نفسها بوصفها قدرا. الضحك في قايد الواد يصبح شكلا من أشكال الوعي، يتيح للمشاهد فهم طبيعة النظام الاجتماعي دون أن يغرق في خطاب مباشر أو تقريري. إنه الضحك الذي يكشف هشاشة السلطة في اللحظة نفسها التي يدعي فيها صاحبها القوة المطلقة.
وقد خرج الجمهور في النهاية مستمتعا بمسرحية تبتكر وعيا بديلا يجعل من الخشبة فضاء لفهم كيف تشكلات العنف، وكيف ينتج المجتمع سلطته، وكيف يستطيع الأفراد رغم هشاشتهم، أن يعيدوا بناء ذواتهم خارج منطق القهر. ولعل هذه القدرة على الجمع بين العمق الاجتماعي والجمالية المسرحية هي ما يجعل “قايد الواد” تجربة فنية استثنائية، تكشف أن المسرح، حين يكتب بروح الدارس وعين المبدع، يمكنه أن يكون أكثر إقناعا كما يمكنه أن يكون مرآة تعكس ثقافة المجتمع، وصوتا يحرر ما أخفته البنى التقليدية للسلطة ...