لحسن العسبي.. كذب الديبلوماسي الجزائري بوقادوم على تاريخ العلاقات المغربية الأمريكية

لحسن العسبي.. كذب الديبلوماسي الجزائري بوقادوم على تاريخ العلاقات المغربية الأمريكية لحسن العسبي وصبري بوقادوم

سقطة ديبلوماسية وعلمية معيبة ومشينة تلك التي وقع فيها (أمام الأشهاد في حوار صحفي مع قناة تلفزية أمريكية) وزير الخارجية الأسبق للجزائر وسفيرها الحالي بواشنطن السيد صبري بوقادوم. حين ادعائه أن بلده هي أول دولة إفريقية وعربية وإسلامية وقعت ما وصفه ب "معاهدة صداقة وتعاون" مع دولة الولايات المتحدة الأمريكية بعد تأسيسها سنة 1783. وهي السقطة التي نبهه إليها الصحفي الأمريكي المحاور حين ذكره أن أول دولة وقعت معها واشنطن "معاهدة صداقة وتعاون" هي المملكة المغربية التي هي أول دولة في العالم تعترف باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية.

علينا في مكان ما أن نشكر السيد بوقادوم على سقطته وزلته وكذبه على التاريخ، لأنه يمنحنا مجددا أن نعود لنذكره ونذكر أنفسنا بالحقائق التاريخية الدامغة في هذا الباب، التي تقوم دليلا على أنه مؤسف أن يكذب سفير ووزير دولة في موضوع مماثل، لأنه يوجه إساءة بليغة لمصداقيته ومصداقية بلده أمام الأشهاد.

لنؤسس لردنا بأن نحيل على المراجع التاريخية المفحمة للجميع في هذا الباب، أذكر منها ثلاثة مراجع أمريكية بالتحديد (وأتحاشى الإحالة على المراجع المغربية على حجيتها المفحمة والقاطعة)، هي:

- كتاب "الحملات الأمريكية على شمال إفريقيا خلال القرن الثامن عشر" لكل من لويس رايت وجوليا ماكلويد. ترجمة محمد البعلبكي. منشورات مكتبة الفرجاني. طرابلس الغرب.

- كتاب "الولايات المتحدة الأمريكية وشمال إفريقيا" لشارل كاليغر، منشورات جامعة هارفارد. 1963.

- الدراسة الأكاديمية "جدور العلاقات الأمريكية المغربية" للباحث جيروم بوكين – وينر (ضمن كتاب "الترابط الأطلسي.. 200 سنة من العلاقات المغربية الأمريكية – 1786/ 1986" منشورات إدينو – نيويورك. 1990).

تجمع هذه المراجع كلها على أن أول دولة اعترفت في العالم باستقلال وتأسيس دولة الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1777 هي المملكة المغربية من خلال صدور مرسوم للسلطان سيدي محمد بن عبد الله بقصر مكناس يوم 20 فبراير يعلن فيه فتح الموانئ المغربية للسفن التجارية الحاملة لعلم الدولة الجديدة أمريكا وأن تُعامَلَ مثلما تعامل باقي الدول الأروبية والأجنبية (وهو قرار سلطاني لم تقبله بريطانيا حينها كونها كانت لا تزال في حرب ضد الأمريكيين وضد استقلالهم عن التاج البريطاني). مع التسطير على أن العواصم الأروبية الكبرى لم تعترف بدولة أمريكا سوى سنة 1783، بعد توقيع اتفاق السلم معها بباريس بقصر فيرساي، في مقدمتها بريطانيا.

 

تجمع ذات المراجع على أن أول بلد عربي وإسلامي وإفريقي وقعت واشنطن معه "معاهدة صداقة وسلم وتعاون" هي المملكة المغربية يوم 15 يوليوز 1786، وقعها عن الجانب الأمريكي بقصر مراكش مبعوث واشنطن الخاص توماس بيركلي وعن الجانب المغربي الوزير المفوض الطاهر فنيش السلاوي، علما أنها معاهدة في 25 بندا. ومما يؤكد عليه الباحث الأمريكي جيروم بوكين في دراسته المشار إليها أعلاه، بالحرف:

"عندما صادق الكونغرس على معاهدة مراكش، وهي أول معاهدة بين الولايات المتحدة وأي دولة مسلمة أو عربية أو أفريقية، طلب أيضًا من سيدي محمد الوفاء بالتزام شفهي للتدخل لصالح الولايات المتحدة مع الموانئ الأخرى في شمال أفريقيا. ففي أقل من عقد من الزمن، أصبحت المغرب ليس فقط أول دولة بالعالم تعترف باستقلال أمريكا، ولكن أيضًا من أولى الدول التي توقع معاهدة رسمية مع تلك الأمة المستقلة حديثًا".

ستخبرنا ذات المراجع التاريخية الأمريكية على أن الكونغرس الأمريكي سيطلب في رسالة رسمية إلى السلطان المغربي سيدي محمد بن عبد الله العمل على التوسط لدى باقي الولايات العثمانية بشمال إفريقيا المتوسطية للتوقيع معها على اتفاقيات سلم وتعاون. الأمر الذي تجاوب معه سلطان المغرب وأرسل رسائل مع مبعوثين ملكيين رسميين إلى "داي الجزائر" و "باشا طرابلس" و"باي تونس" يحثهم فيها على السعي لتوقيع اتفاقيات تجارية مع الدولة الجديدة. وبعد أن تحقق ذلك سيرسل الكونغرس الأمريكي رسالة شكر إلى سلطان المغرب مولاي سليمان بعد وفاة السلطان سيدي محمد بن عبد الله سنة 1790.

 

بالتالي فإذا كانت "معاهدة السلم والتعاون" الموقعة مع المغرب قد تمت يوم 15 يوليوز 1783، فإن اتفاقيات التعاون التجاري والسلم بين واشنطن و "داي الجزائر" قد تمت يوم 5 شتنبر 1795 أي 12 سنة بعد المعاهدة مع المغرب. فيما وقعت الإتفاقية مع "باشا طرابلس" يوم 4 نونبر 1796، ووقعت الإتفاقية مع "باي تونس" يوم 28 غشت 1797.

 

مع تفصيل هام لابد من التسطير عليه في هذا التذكير بالحقائق التاريخية يتمثل في:

- أولا: أن ما وقع مع المغرب هو "معاهدة" وأن ما وقع مع الولايات العثمانية الثلاثة هو "اتفاقية". وفي القانون الدولي هناك مسافة بين "المعاهدة" و "الإتفاقية"، أهمها إلزامية الأولى على الثانية.

- ثانيا، أن المعاهدة الموقعة بين المغرب وأمريكا قد حررت في نسختين أصليتين موقع عليهما معا واحدة باللغة العربية والثانية باللغة الإنجليزية. بينما الإتفاقيات مع الولايات العثمانية قد وقعت في نسختين واحدة باللغة التركية والأخرى باللغة الإنجليزية. وهذا له معناه الواضح في مسألة السيادة.

مما تؤكد عليه تلك المراجع الأمريكية أيضا، أن سلطان المغرب ومن كلفهم بالتفاوض مع المبعوث الأمريكي الرسمي لم يلحوا كثيرا في مسألة فرض إتاوات سنوية على الحكومة الأمريكية مثلما هو معمول به مع دول أجنبية أخرى (السويد والنرويج وهولندا كمثال)، ولا بالإلحاح على مسألة التوصل بهدايا خاصة كما كان معمولا به حينها بين الدول. بل إن المغرب اعتبر أن الأساسي هو توقيع المعاهدة بدون شروط مسبقة، مما يترجم خيارا مغربيا للإنفتاح على سوق أجنبية جديدة من خارج أوروبا. وأنه بالمقارنة مع ما تم مع "داي الجزائر" أو "باي تونس" أو "باشا طرابلس"، سنوات بعد ذلك (ابتداء من سنة 1795)، فإن الأرقام المسجلة والموثقة في الأرشيفات الأمريكية، تؤكد أن الإتاوة المقدمة إلى المغرب بمبادرة من واشنطن وليس بطلب من السلطان المغربي لم تتجاوز 5 آلاف دولار، فيما بلغت تلك الإتاوة في الإتفاق مع "داي الجزائر" بطلب منه 642 ألف دولار، وفي الإتفاقية الموقعة مع "باشا طرابلس" 56 ألف دولار، وفي الإتفاقية مع "باي تونس" 107 آلاف دولار. حيث حرص السلطان سيدي محمد بن عبد الله على عدم فرض أية إتاوة سنوية على الحكومة الأمريكية كما كان معمولا به مع عواصم غربية أخرى، بينما فرض داي الجزائر على الحكومة الأمريكية إتاوة سنوية حددت في 216 ألف دولار. مما يجد تفسيره في أن سلطان المغرب كونه هو المبادر إلى الإعتراف باستقلال الولايات المتحدة وإلى ترسيم العلاقات معها عبر معاهدة وليس اتفاقية، كان يضع الأمر ضمن أفق استراتيجي للإنفتاح على سوق جديدة ودولة جديدة لا تمارس ذات الضغوط والشروط التي تمارسها دول مثل بريطانيا وإسبانيا وفرنسا على المغرب. أي ما يوصف في العلاقات الدولية اليوم ب "تنويع الشركاء". علما أن مما يؤكد هذا التوجه عند سلطان المغرب شروعه في فتح باب تفاوض تقني مع صناع البحرية المغربية والأروبية لتدشين خط بحري تجاري مباشر بين طنجة وبوسطن.  

بالتالي فإن الغاية مغربيا من الحرص على الإنفتاح على الدولة الجديدة تلك، الحديثة التأسيس والإستقلال، كانت لها غايات سياسية وطموحات تجارية.

مثلما أنه بالعودة إلى أرشيف مكتبة الكونغرس الأمريكية في موقعها الرسمي على شبكة الأنترنيت، نجد ضمن خانة "المعاهدات والإتفاقيات الدولية للولايات المتحدة الأمريكية"، ترتيبا مدققا لكل المعاهدات والإتفاقيات الدولية لواشنطن (كل على حدة) منذ سنة 1776 ميلادية، بينها تلك المبرمة مع المملكة المغربية. نذكر منها معاهدة 1786 والإتفاقية التعديلية لها لسنة 1836 واتفاقية إنشاء منار رأس سبارتيل بطنجة سنة 1864 وغيرها كثير.

مما تؤكد عليه تلك المراجع الأمريكية أن الكونغرس الأمريكي راسل سلطان المغرب بتاريخ 23 يونيو 1787، يطلب منه تقديم دعمه لمبعوث واشنطن التاجر "جون لامب" إلى داي الجزائر محمد بن عثمان الشهير بمحمد الخامس، بغاية التوصل معه إلى توقيع اتفاقية تعاون وسلم وهدنة. مثلما طلبت السلطات الأمريكية بعدها توسطه لدى باي تونس حمودة باشا وباشا طرابلس علي باشا بن محمد صيف سنة 1788. الأمر الذي تجاوب معه السلطان المغربي وأرسل مبعوثيه برسائل إلى كل من داي الجزائر بداية، ثم إلى باي تونس ثم باشا طرابلس بعد ذلك، يحثهم على أهمية التوصل إلى اتفاق هدنة وتعاون وتجارة مع الدولة الأمريكية الجديدة. أي أنه كان وسيطا إيجابيا لفائدة تحقيق المصلحة التعاونية بين هذه الإيالات العثمانية ذات الحكم الذاتي وواشنطن.

كانت نتيجة ذلك أن أرسل الرئيس الأمريكي الأول جورج واشنطن رسالة إلى سلطان المغرب سيدي محمد بن عبد الله بتاريخ فاتح دجنبر 1789، جوابا على رسالة سابقة لذات السلطان كان قد بعثها إلى الكونغريس الأمريكي بتاريخ 17 غشت 1788.

مما تقوله رسالة الرئيس الأمريكي المطولة إلى السلطان المغربي محمد الثالث (كما أوردها المؤرخ المغربي عبد الحق التازي في موسوعته عن التاريخ الديبلوماسي للمغرب):

"إلى جلالة إمبراطور المغرب،

صديقي العظيم الهمام،

منذ تاريخ خطابنا الذي رفعه الكونغريس الأخير بواسطة رئيسه إلى جلالتكم، فضلت الولايات المتحدة تبديل حكومتها بأخرى جديدة تتفق والدستور الذي أتشرف بإرفاق نسخة منه مع خطابي هذا. وإذ لم يتوصل جلالتكم بالإعلامات العادية ولا بعبارات الإعتبار من الولايات المتحدة رغم صداقتكم ومسلككم الشجاع تجاهها مما يبرر توقعكم، فخير عذر وعلة نرفعها إلى جلالتكم هو الوقت الذي استغرقته تلك المهمة الشاقة، ثم الإرتباك الشديد الذي تخلف عن هذه الثورة رغم سلميتها.

وما أن أجمعت الولايات المتحدة على تعييني على رأس السلطة التنفيذية العليا لهذه الأمة، حتى توصلت بخطاب جلالتكم المؤرخ في 17 غشت 1788 الذي ظل بدون جواب بسبب سقوط الحكومة السابقة. كما توصلت بالخطابات التي تلطفتم جلالتكم بتحريرها لصالح الولايات المتحدة إلى باشوات الجزائر وتونس وطرابلس، وأرفع إلى مقامكم شكر وامتنان الولايات المتحدة لهذه الإلتفاتة الكريمة الدالة على صداقتكم لها. ولنا أن نتأسف حقيقة على التصرفات العدوانية لتلك الإيالات تجاه هذه الأمة التي لم تمسسهم بسوء، تلك التصرفات التي لم يكن دفعها وديا.

فأراضينا لا تتوفر على مناجم ذهب أو فضة، وهذا الشعب الفتي ما كاد يبرأ من خراب ودمار حرب طويلة، ولم يمهل حتى تكون له ثروة ما عن طريق الزراعة أو التجارة. إلا أن أرضنا سخية وشعبنا صناعي. ولنا أن نمني النفس بأننا سنتمكن تدريجيا من أن نصبح مفيدين لأصدقائنا.

كان التشجيع الذي تفضلتم جلالتكم به على تجارتنا مع مملكتكم، والدقة التي راعيتموها في عقد المعاهدة معنا والإجراءات المنصفة الكريمة التي اتخذت في قضية الكابتن بروكتور، كل هذه الأشياء تركت أثرا عميقا في الولايات المتحدة ووكدت احترامها وتعلقها بجلالتكم.

يسرني في هذه المناسبة بأن أؤكد لجلالتكم أنه طالما سأكون على رأس هذه الأمة فلن أتوانى عن تشجيع كل وسيلة من شأنها أن تدعم الصداقة والإنسجام القائمين (لحسن الحظ) بين إمبراطوريتكم وبيننا. بل سأعتبر نفسي سعيدا كلما تمكنت من إقناع جلالتكم بالتقدير الكامل الذي أكنه لشجاعتكم وحكمتكم وأريحيتكم.

إنه لما تجتمع الهيئة التشريعية (التي كانت تسمى الكونغريس سابقا) خلال الشتاء القادم، سأعمل على ألا تتعطل المراسلات المتبادلة بين بلدينا وأن تسير بالكيفية التي تروق جلالتكم وترضي جميع مطالبها.

أدعو الله تعالى بأن يبارك جلالتكم، أيها الصديق الهمام العظيم، ويشملكم دائما بحفظه ورعايته.

حرر في مدينة نيويورك في غرة دجنبر عام 1789".