من خلال هذا المدخل المتضمن لمبدأ السيادة في أي حل سلمي للنزاع. إضافة الى التنصيص على الاستفادة من تجارب دول الجوار والمقصود هنا ضمنيا إسبانيا. إضافة إلى إقراره بضرورة إجراء تعديل دستوري يضمن الإطار القانوني للحل المقترح. كل هذا إذن يحيلنا على ما اعتبرناه مواد أساسية في نص المقترح التي تعمل في مقاصدها على تثبيت مبدأ السيادة من خلال الجيش والخارجية والاختصاصات الدستورية والدينية… مع حق الصحراويين في تسيير شؤونهم الذاتية وما عدا ذلك تفاصيل مطروحة للنقاش.
- في مسألة الحكم الذاتي والانتقال الديمقراطي بالمغرب
صحيح أن المغرب أصر في المادة 3على التأكيد أن المقترح يندرج ضمن المشروع الحداثي الديمقراطي إلخ ….لكن بالنسبة لنا كمغاربة نعلم جيدا أن الخطابات الرسمية حول المسألة الديمقراطية لم تعد مقنعة لأحد. وهذا ما لمسناه من خلال تجربة طويلة من المزاوجة بين هذا الشعار وسيادة الفساد السياسي والاقتصادي. وهو كذلك ما نترقب استمراره مع الحكومات المقبلة التي يتنافس عليها نفس الفاعلين السياسيين وبنفس الآليات. علما أن الإرادة الحقيقية في التغيير تمر أساسا عبر إصلاح عميق للمشهد السياسي والحربي وهياكل الدولة السياسية والاقتصادية. مع فصل حقيقي للسلط تخضع كل من يتحمل المسؤولية السياسية في تدبير الشأن العام للمسائلة والمحاسبة. إضافة الى القطع مع الفساد وكل أشكال الريع والزبونية. بالتالي فإن الشروع في هذه الإصلاحات العميقة حسب اعتقادنا هي من يؤسس لدولة الحق والقانون وللدولة الضامنة للحقوق والحريات والعدالة الاجتماعية والترابية. وهي فقط ما يمكن أن يضفي المصداقية على الشعار الوارد في المبادرة المغربية الذي ربط الحكم الذاتي بالمشروع الحداثي الديمقراطي. لكن مع الأسف ما نلاحظه هو استمرار الدولة في تدبيرها الأحادي لهذا الملف الذي يهم جميع المغاربة. رغم اللقاء الذي عملت الدولة العميقة عقده مع أمناء الأحزاب السياسية في الآونة الأخيرة الذي يهدف إلى إضفاء نوع من الشرعية المؤسساتية على المقترح. علما أن أغلب هذه الأحزاب لم يسبق لها أن أبدت رأيا في الموضوع حتى حين طلب منها ملك البلاد ذلك سنة 2003 وذلك قبل تقديم المقترح لمجلس الأمن سنة 2007. بل إنها كذلك كانت السبب في تأخير تقديم مشروع الجهوية المتقدمة للملك من طرف رئيس اللجنة عزيمان في أواخر 2010. الذي طلب حينها مهلة ستة أشهر إضافية لكونه لم يتوصل بعد بمذكرات أغلب الأحزاب المغربية في الموضوع.
هذا مع العلم أن الخروج من هذه المنهجية الأحادية الخاطئة في تدبير الملف. ومن أجل إعطاء مشروعية شعبية ومؤسساتية كان بالأحرى على الدولة العمل وفق آليات أخرى، أقلها تلك التي اعتمدها عزيمان في التعاطي مع مشروع الجهوية المتقدمة، مع إشراك جميع المغاربة بما فيهم الصحراويين سياسيين ومجتمع مدني ومثقفين في النقاشات العمومية التي تهم تفاصيل تطوير المبادرة المغربية المتعلقة بالحكم الذاتي وكيفية جعلها نموذجا يمكن تعميمه على باقي الجهات التاريخية في المغرب.
صحيح أيضا أن بعض المنتقدين للنظام السياسي المغربي من اليسار الديموقراطي أو حتى من الإسلاميين، يأملون في جعل مقترح الحكم الذاتي الذي تبناه مجلس الأمن كخيار واقعي لحل النزاع في الصحراء، فرصة لتحقيق انتقال ديمقراطي وانفراج سياسي وحقوقي في المغرب. باعتبار أن حل هذا النزاع الذي كلف المغرب الكثير من الإمكانيات وكان سببا في إرجاء الكثير من المشاريع السياسية ذات الصلة بالديمقراطية والتنمية وحقوق الإنسان. سيساعد في إزالة الأسباب التي كانت الدولة تتعلل بها من أجل تبرير الكثير من الممارسات المخلة بمنظومة حقوق الإنسان.
لكن ما قد لا يستوعبه المهتم والمتابع لصيرورة العمل السياسي في المغرب و لما يحمله المقترح من تداعيات مستقبلية على هيكلية الدولة والمجتمع و المشهد الحزبي والسياسي هو كيف لهذه القوى المعارضة أن تختزل حل هذا النزاع وفق مقترح الحكم الذاتي في مجرد إشكالية أعاقت عملية الانتقال الديموقراطي بالمغرب ومجرد زوالها تنتفي الأسباب الكامنة وراء تعثر المغرب في تجربته الديمقراطية. علما أن مرحلة ما قبل ظهور ملف الصحراء كانت أكثر انتهاكا للحقوق والحريات. هذا في الوقت كذلك الذي يجب اعتبار هذه المبادرة، إن تم التوافق عليها، ودخلت حيز التطبيق محطة مفصلية في تاريخ المغرب المعاصر وذلك للأسباب التالية:
-1 إن مبادرة الحكم الذاتي تعني بالضرورة نهاية المشروع السياسي للحركة الوطنية والقصر الذي أسس لقيام الدولة المركزية منذ الاستقلال إلى الآن. وهو المشروع الذي كان سببا في ارتكاب الكثير من الانتهاكات الحقوقية في حق الكثير من المشروعات التاريخية في الريف والأطلس والصحراء بتهم الخيانة والتفرقة. لمجرد اعتراض هذه المشروعات على وفاق ايكس ليبان وتبنيها لخيار استمرار خط المقاومة لاستكمال عملية التحرير الوطني دون شروط. مع ضرورة مناقشة شكل الدولة الذي يتيح للجهات حقها في التسيير والاقتسام العادل للثروة والسلطة.
بالتالي فهذا المشروع القاضي بمنح جهة الصحراء حكما ذاتيا هو بمثابة إعادة إحياء للسؤال التاريخي الذي تبنته مشروعيات تاريخية في بدايات الاستقلال. وفي نفس الآن يعلن إنتهاء مرحلة الدولة المركزية اليعقوبية القائمة على جهوية إدارية وبداية مرحلة الدولة البسيطة المركبة القائمة على الجهوية السياسية ولو بشكل متدرج.
-2 إن المبادرة القاضية بمنح حكم ذاتي لجهة الصحراء الغربية وفق المعايير الدولية.تعني كذلك حكومة محلية تنفيذية منتخبة و برلمان محلي منتخب يمارس مهامه التشريعية و سلطة قضائية مستقلة و شرطة محلية، مع الحق في الاستفادة من جزء مهم من الموارد الطبيعية المحلية والوطنية. كل هذا يعني بالضرورة اقتسام الثروة والسلطة مع الدولة التي طالما عملت نخبها المركزية على احتكارها لنفسها. بعد أن نصبت نفسها وصية على الأمة في إطار "ديمقراطية " عمودية تعتمد المنهجية الديكارتية التي تضفي على تمثيليتها للشعب صفة الأبوة. وهو ما يعني كذلك بداية نهاية المفهوم الديكارتي للديموقراطية القائم على مبدأ الوصاية والأمة الواحدة اللاغية للتعدد. ليحل محلها المفهوم الكانطي للديموقراطية القائم على النسبية والأمة المتعددة والديمقراطية التشاركية التي تحتكم الى منطق الأخوة في صناعة وصياغة القرارات السياسية والاقتصادية. محليا ووطنيا.
-3 إن مقترح الحكم الذاتي من جملة ما يقتضيه كذلك هو التفاوض مع جبهة البوليساريو إضافة إلى فاعلين صحراويين آخرين طالما طالبوا بحقهم في هذا المقترح. وإن تم التوافق عليه فإن هذه القوى ستتحول بالضرورة إلى أحزاب جهوية وهو ما سيخلخل كذلك البنية التقليدية التي سار عليها المشهد الحزبي والسياسي في المغرب الذي احتكرت من خلاله الأحزاب الوطنية حق التمثيلية السياسية. بعد أن صادقت بالإجماع بيمينها ويسارها على حظر الأحزاب الجهوية في مشروع قانون إصلاح الأحزاب الذي تم تمريره في البرلمان في أواخر العشرية الاولى من الألفية الثالثة و تم تأكيده في دستور 2011 .
إن مقترح الحكم الذاتي في جهة الصحراء الغربية ليس فقط مسألة شكلية معزولة عن سياقها الوطني بكل ما أفرزته المرحلة السابقة من تحديات سياسية واقتصادية وحقوقية وترابية. بل زلزالا يطال شكل الدولة وشكل السلطة ويعيد صياغة مجموعة من المفاهيم التي شكلت العمود الفقري للفكر السياسي المغربي المعاصر، كمفهومي الوحدة الوطنية. والسيادة. وهو بالتالي يقتضي تعديلا دستوريا يمس جوهر شكل السلطة وشكل الدولة. لكن كذلك إن تم اعتماده كخيار استراتيجي حصري بالأقاليم الصحراوية فإن تداعياته ستكون غير محمودة بالنسبة لباقي الجهات التي ترى أحقيتها في ذلك. إضافة إلى ما سيثيره من تفرقة دستورية بين مغاربة من درجة أولى ومغاربة من درجة ثانية.
علما كذلك أن هذه المبادرة وضعت اللوبيات السياسية والاقتصادية التي راكمت الثروة والسلطة من داخل نظام الحكم المركزي في الصحراء وفي كل ربوع الوطن في مأزق قد يدفعها إلى عرقلة أي مشروع جديد فرضته التحولات والتحديات التي يشهدها المغرب. ليس فقط بالعلاقة مع ملف الصحراء وإنما كذلك بقضايا التنمية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وفي هذا السياق يمكن أن نستحضر ما قاله الملك الراحل الحسن الثاني في صيف 1984 بعد الأزمة الاقتصادية والسياسية التي عاشها المغرب. التي أدت إلى انتفاضة يناير 1984. وذلك خلال افتتاح المجلس الاستشاري الاقتصادي للجهة الوسطى الشمالية حين تحدث عن إمكانية انتقال المغرب إلى تجارب أخرى في الحكم وأعطى مثالا على ذلك النموذج الألماني. وهو ما أكده خلال الحوار الذي أجرته معه جريدة لوموند سنة 1986. بل أضاف إلى ذلك، حين سئل عن خطر النزعات الانفصالية إن تم تطبيق هذا النموذج في المغرب، أن هذا الأخير كان دائما قويا بخصوصيات جهاته التاريخية وتعدده اللساني والثقافي وأن هذا التنوع هو مصدر إغناء ووحدة، بالتالي لا خوف من ذلك. وهو ما ورد أيضا في كتابه ذاكرة ملك.
أقول هذا لأن السلطة الوحيدة الآن القادرة على كبح جماح هذه اللوبيات الفاسدة التي تضع مصالحها فوق مصلحة الدولة والوطن. أو تلك الغارقة في المركزية السياسية المفرطة لاعتبارات إيديولوجية أو تاريخية. وذلك من أجل الدفع بهذا الورش الكبير إلى الامام ليشمل المغرب بكل جهاته حفاظا على استمرار الدولة والعرش والاستقرار السياسي والاجتماعي هي المؤسسة الملكية في شخص الملك باعتباره رئيسا للدولة يملك كل الصلاحيات الدستورية والقانونية لذلك.
قبل أن أختم هذا المقال ومن أجل تبيان عقم الفكر السياسي المغربي في هذا الشأن. لابد من استحضار حدثين لهم علاقة بالموضوع:
- الأول عندما نظمنا ومجموعة من الفاعلين الديمقراطيين ندوة دولية بطنجة في موضوع "الجهوية السياسية مدخل للتنمية والديمقراطية "سنة 2003 .حينها طلع علينا أحد الأمناء العامون في حزب مغربي عتيد ليعلن على القناة الثانية ،"أن مجموعة من الريافا أو الشماليين يؤسسون حزب انفصالي في طنجة". .
-والمرة الثانية خلال السنوات الأخيرة حين حضرت إحدى ندوات اليسار في الدار البيضاء و قلت في مداخلتي حينها، أن التغيير في تاريخ المغرب كان دوما يأتي من الهوامش والجهات البعيدة عن المركز .حينها أجابني أحد المناضلين الأشداء من داخل القاعة :"هذا ما لا نريده أ الرفيق".