محمد قزيبر: انخراط المغاربة في النقاش العمومي بشأن مشروع قانون المالية مازال ضعيفا 

محمد قزيبر: انخراط المغاربة في النقاش العمومي بشأن مشروع قانون المالية مازال ضعيفا  محمد قزيبر، أستاذ المالية العمومية بجامعة مولاي إسماعيل بمكناس
يرى د.محمد قزيبر، أستاذ المالية العمومية بجامعة مولاي إسماعيل بمكناس أن النقاش بشأن مشروع قانون المالية 2026 يكتسي طابعا نخبويا على الرغم من التطور الهام  الذي شهده المشهد المدني وانخراط العديد من الجمعيات في النقاش العام.
وفيما يتعلق بالتزامات الحكومة بشان تعزيز أسس الدولة الاجتماعية أشار محاورنا أنه وعلى الرغم من الاعتمادات الهامة المرصدة للقطاعات الاجتماعية فإن الملاحظ أن الحكومة في ترتيبها للتوجهات الكبرى لمشروع قانون المالية وضعت في مقدمتها التوجه ذو الطابع الاقتصادي المتعلق بتوطيد المكتسبات الاقتصادية لتعزيز موقع المغرب ضمن الدول الصاعدة، بينما تراجع توجه تعزيز أسس الدولة الاجتماعية إلى المركز الثالث.

من المعلوم أن مناقشة القانون المالي تشكل لحظة مفصلية للنقاش العمومي بشأن السياسات الحكومية وتسليط الضوء على اختلالات التدبير العمومي في البلدان الديمقراطية، في حين يكتسي الأمر طابعا نخبويا في المغرب، ما رأيك ؟
مناقشة مشروع قانون المالية تعتبر من أهم اللحظات لتقييم مدى تنزيل الحكومة لبرنامجها، وهو أيضا فرصة للنقاش العام بشأن السياسة الحكومية في مختلف المجالات، فمشروع قانون المالية يشكل فرصة أساسية ودورية أمام التشكيلات السياسية لعرض رؤيتها للتدبير العمومي واقتراح البدائل، وخصوصا من خلال منبر البرلمان حين يتداول في المشروع، كما أنه يشكل أيضا فرصة مواتية لتعزيز انخراط مختلف فئات المجتمع وقواه الحية في النقاش العام بشأن المشروع.
تتميز لحظة مناقشة مشروع قانون المالية في بعض التجارب المقارنة بقوة التدافع السياسي و بانخراط مختلف فئات المجتمع في هذه المناقشة، ولا أدل على ذلك من الجمود الحكومي في الولايات المتحدة الأمريكية وكذا قوة النقاش السياسي والمدني بشأن المشروع في التجربة السياسية الفرنسية خصوصا من خلال مختلف وسائل الإعلام والفضاء المدني، غير أن انخراط المجتمع المدني في هذا النقاش على مستوى المغرب يبقى ضعيفا، وذلك بالنظر إلى أن وثيقة قانون المالية لا تحظى بالمتابعة الشعبية لها ولمستجداتها رغم انعكاساتها على حياة مختلف الأشخاص والفئات، إذ أن هذه الوثيقة تعتبر بالنسبة للغالبية العظمى من فئات المجتمع أمرا بالغ التعقيد ويصعب تفكيك رموزه ومن تم تحجم عن الانخراط في مناقشته لصعوبة مقروئيته بالنسبة لمجتمع لا يزال يعاني من ظاهرة الأمية وخصوصا الأمية المرتبطة بالقدرة على القراءة المعمقة للنصوص القانونية وللسياسات العمومية.
ومن هذا المنطلق ينحصر النقاش المرتبط بمشروع قانون المالية في بعض نخب المجتمع وخصوصا النخب الأكاديمية المختصة بالمالية العمومية وبالسياسة الاقتصادية، وعلى الرغم من التطور الهام في المشهد المدني وانخراط العديد من الجمعيات في النقاش العام إلا أن مواكبتها للنقاش بشأن مشروع قانون المالية لا زال جد ضعيف، وبالتالي فإن أي تعميم للنقاش حول هذه الوثيقة يتطلب أولا تأهيلا لفعاليات المجتمع المدني من جهة ولوسائل الإعلام من جهة ثانية، خصوصا في سياق يتسم بالرغبة في تعزيز مقروئية قوانين المالية والقوانين الضريبية لانعكاساتها المباشرة على حياة مختلف أفراد المجتمع. وهذا الأمر كفيل بتعزيز الديمقراطية التشاركية والمشاركة المواطنة بشكل يتوافق مع القواعد الدستورية التي ركزت على كون هذا النمط من الديمقراطية من شأنه أن يشكل تكاملا مع الديمقراطية التمثيلية التي يمارسها أعضاء البرلمان.
 
إلى أي حد يستحضر مشروع القانون المالي 2026 التزامات الحكومة فيما يتعلق ببناء الدولة الاجتماعية، والاستجابة لمطالب مختلف فئات المجتمع والتي تم تعبير عنها من خلال حراك جيل زيد ؟
التزامات الحكومة على المستوى الاجتماعي نابعة من برنامجا الحكومي والذي يستمد أسسه من مرجعيات أسمى هي التوجيهات الملكية والنموذج التنموي الجديد باعتباره خارطة الطريق لمختلف السياسات العمومية، وهو النموذج الذي تبنى نمطا من التنمية قائما على مفهوم التنمية المستدامة بدلا من النمو الميكانيكي، وعليه فإن السياسات الحكومية وخصوصا المرتبطة بالقطاعات الاجتماعية ملزمة بالوفاء بهذه الالتزامات ذات الطابع الاستراتيجي، ومنذ بداية تنزيل البرنامج الحكومي الحالي دأبت الحكومة في مشروع قانون المالية على اعتبار تعزيز أركان الدولة الاجتماعية من أهم أولويات المشروع ووضعه على قائمة التوجهات الكبرى للمشروع.
يتميز مشروع قانون المالية لهذه السنة بسياق مختلف هو سياق الاحتجاجات التي شهدها المغرب المنظمة من فئات شبابية أو ما يسمى بحركة جيل زاد، وهي احتجاجات انصبت بالأساس على الخدمات الاجتماعية المرتبطة بالصحة أولا وبالتعليم وغيرها من القطاعات الاجتماعية، وعلى الرغم من الاعتمادات الهامة المرصدة للقطاعات الاجتماعية فإن الملاحظ أن الحكومة في ترتيبها للتوجهات الكبرى لمشروع قانون المالية وضعت في مقدمتها التوجه ذو الطابع الاقتصادي المتعلق بتوطيد المكتسبات الاقتصادية لتعزيز موقع المغرب ضمن الدول الصاعدة، بينما تراجع توجه تعزيز أسس الدولة الاجتماعية إلى المركز الثالث، في حين احتل التوجه المتعلق بإطلاق جيل جديد من برامج التنمية الترابية المندمجة المركز الثاني كنوع من التفاعل مع الاحتجاجات الاجتماعية عبر الإنصات إلى المطالب المحلية، وهذا الترتيب للأولويات والتراجع في تصنيف التوجه الاجتماعي يخالف ما دأبت عليه الحكومة منذ بداية برنامجها الحالي من إيلاء الأولوية للأهداف الاجتماعية للسياسة الميزانياتية.
وهو ما يطرح علامة استفهام حول مدى التزام الحكومة بتعهداتها الاجتماعية والتطابق مع التوجيهات الملكية ومع الأهداف الأساسية للنموذج التنموي الجديد، خصوصا في سياق خاص كان من المفترض أن يضع تأهيل القطاعات الاجتماعية والارتقاء بخدماتها ضمن أولى الأولويات، فالتأهيل الاقتصادي للبلاد لا يكتمل إلا بتأهيل اجتماعي مواز لها، والظروف الاجتماعية شرط لنجاح البرامج والأنشطة الاقتصادية لأنها أساس النمو للاقتصاد الوطني.
 
ما مدى استحضار المشروع لمختلف المجالات الجغرافية الواحية والجبلية والقروية أم هو نتاج تفاهمات للوبيات المصالح ؟
تعهدت الحكومة في مشروع قانون المالية بمواصلة تنزيل برنامج تقليص الفوارق المجالية والاجتماعية بالعالم القروي الذي انطلق سنة 2017 من خلال عمليات تتعلق بالطرق والمسالك القروية والتعليم والصحة والماء والكهرباء، كما صرحت بكون تنمية المناطق الجبلية والواحات تحظى بعناية خاصة من لدنها لكنها ربطت ذلك بالدعم المالي المقدم من المانحين، حيث وضعت برامج للتنمية القروية المندمجة في بعض المناطق بالمغرب، غير أنها اكتفت على مستوى الواحات بالتذكير بالاستراتيجيات السابقة وخصوصا استراتيجية 2030 لمناطق الواحات المعتمدة سنة 2023، مما يعني أنها ستكتفي باستكمال عناصر هذه الاستراتيجية، وانتظار انخراط الشركاء في مجهودات التنمية الواحية، وهو ما لا يتناسب مع السياق الدولي المتسم على المستوى الأمريكي بتجميد مختلف برامج التنمية الاجتماعية الموجهة للخارج، مما سينعكس بشكل بالغ على برامج التنمية المرتبطة بها.
هذه الأهمية الثانوية لبرامج التنمية الجبلية والواحية في السياسات الحكومية وارتهانها للدعم الخارجي يستدعي التذكير بأن مشروع قانون المالية ليس وثيقة قانونية وتقنية فقط، بل تعكس تجاذبات مجتمعية وتفاعلات سياسية ومفاوضات لمجموعات المصالح، هذه الأخيرة تتجند بمناسبة كل مشروع قانون للمالية لا على مستوى تنظيم لقاءات مع الحكومة أو القطاعات الحكومية المعنية وخصوصا القطاع الحكومي المكلف بالاقتصاد والمالية لتقديم مقترحاتها وعرض وجهات نظرها، ولا على مستوى الجهاز التشريعي من خلال لقاءاتها بالفرق والمجموعات البرلمانية وكذا لقاءاتها المنفردة بأعضاء البرلمان، مما يستدعي من الجهات المعنية بالتنمية الجبلية والواحية تفعيل مقاربتها الترافعية قبل اكتمال وضع مشروع قانون المالية، ومعرفة المساطر والآليات التي تكفل الرفع من موقع هذه التنمية في البرامج الحكومية وخصوصا من خلال وثيقة قانون المالية.