المصطفى الفارح عندما نحاول البحث عن الأثر والفعل في السياسات العمومية للدولة المغربية من أجل فهم تصورها للشيخوخة ولمصير المسنين، ينتابنا ألم وحزن كبيران للغياب شبه التام للموضوع في برامج حكومة تشنّف أسماعنا صباح مساء وبكل وسائل الإعلام والتواصل في الدولة الاجتماعية، حتى إنه ولكثرة تكرار هذه الكذبة، أصبحت تصدق اجتماعيتها، وتصدق بأن الشعب المغربي يصدق هذا الخطاب، الذي هو أكبر بؤس من بؤس الشعب نفسه.
عندما تتحدث الحكومة عن الدولة الاجتماعية، ومهما حاول البعض أن يفرق بين الحكومة والدولة، فهي محاولة تجانب الصواب، بالرغم من التوظيف الماكر لجملة مفاهيم: المخزن، الدولة العميقة... لإلهاء الرأي العام عن المسؤولية الحقيقية. مهما يكن، فالحكومة تنبثق عن البرلمان، يعين رئيسها ويصادق على أعضائها وينصبها الملك، وله كل صلاحيات محاسبتها وإقالتها إذا ما دعت الضرورة إلى ذلك. وهي تشتغل في إطار التوجيهات الملكية السامية التي تتجسد في خطب رسمية ومناسباتية تحدد المعالم الرئيسية للتوجه العام واستراتيجية الدولة المغربية وسياستها العامة، سواء على المستوى الداخلي المتعلق بالتنمية أو على مستوى السياسة الخارجية والعلاقات الدولية في أبعادها التنموية التعاونية والأمنية من أجل السلم وتقاسم ثروات الأرض والحفاظ عليها واستدامتها وتنميتها واستخدامها بما يضمن كرامة الإنسان بشكل عام.
كرامة الإنسان هي كل لا يتجزأ، وقد نصت كل المواثيق والاتفاقيات الدولية على أن حقوق الإنسان لا تخضع للون أو الجنس أو العمر. بل إن العناصر الأضعف بدنيًا هي الأكثر حاجة للحماية والرعاية. لكننا نلاحظ للأسف الشديد، وبقلق كبير، اشتغال الدولة المغربية في ما بات يُصطلح عليه "التمييز الإيجابي" على إقصاء شريحة المسنين بشكل يكاد يكون ممنهجًا. يتم تحميل الشباب والنساء فوق "العمارية"، كما يقول المغاربة، ويتم تهميش ووضع المسنين في غياهب النسيان، وإسقاطهم من دائرة الاهتمام، خصوصًا محدودي الدخل أو عديميهم، من كل البرامج السياسية والاجتماعية.
تشير أرقام المندوبية السامية للتخطيط الخاصة بإحصاء السكان إلى أن المسنين يبلغ عددهم حوالي 5 ملايين شخص، أي ما يعادل 13,8٪ من مجموع السكان البالغ 36.828.230 نسمة. هذه النسبة ستكون حوالي 23,2٪ بحلول سنة 2050، أي ما يفوق 10 ملايين شخص مسن، ومتوسط العمر المتوقع يقارب 80 سنة. هذه المعطيات كافية لإطلاق ناقوس الخطر بضرورة العناية بهذه الفئات من أجل استمرارها أداة فاعلة في تنمية البلاد، وليس كطبقة مهمشة، غير منتجة، وعالة على المجتمع.
يعيش المغرب اليوم ما عاشته الدول المتقدمة بالأمس القريب، يكمن الفرق بين الطرفين في كون الدول المتقدمة لم يصبها في الماضي ولا في الحاضر مرض الاستثناء الذي أصاب المغرب، دولة ونخبة، الذين كلما أفلسوا وعجزوا عن وضع تصورات وبرامج مستقبل مستمدة من الواقع وحاجياته ومن التجارب المحلية والإنسانية المضيئة، يخفون رؤوسهم في رمال صحارى الفكر، بحثًا عن الربح السريع، وإن على حساب آبائهم وأمهاتهم الذين أفنوا شبابهم في بناء الوطن وتصاميم غذائه وعيشه الكريم والدفاع عنه وعن سيادته وكرامته.
المقاربة ليست توسلية، كما قد يتسرب إلى بعض العقول، بل هي حقوقية بامتياز. ومن أجل فهم التأخر الحاصل في المغرب في الاهتمام بالشيخوخة وكبار السن، والتحسيس بخطورة ظاهرة التهميش والإهمال الذي يطال هذه الشرائح من المجتمع المغربي، يُدرج مفهوم "الشيخوخة النشطة المنتجة" الذي اعتمدته الأمم المتحدة كركيزة من ركائز حقوق الإنسان والتنمية المستدامة، ويرتكز على ثلاثة مبادئ أساسية:
المشاركة في الإنتاج وفي الحياة الاجتماعية والعمل السياسي.
الصحة، بالأساس في الوقاية الصحية ومن الأمراض المزمنة، لمحاربة الاكتئاب والعزلة.
الأمن في مفهومه الواسع، المتمثل في ضمان الكرامة والاستقلالية من خلال توفير حماية اجتماعية ومالية ومحاربة التمييز العمري.
على نفس النهج تسير المنظمات والمؤسسات الدولية الأخرى، كما هو الشأن بالنسبة لمنظمة الصحة العالمية التي انتقلت من مفهوم الشيخوخة النشطة سنة 2002 إلى مفهوم الشيخوخة الصحية، في ربط التقدم في العمر بالصحة. ولابد من الإشارة إلى أن الجسد المريض يشبه مبكرًا بعض النظر عن العمر. أما بخصوص منظمة العمل الدولية والبنك الدولي، فإنهما يركزان على تشجيع العمل اللائق للمسنين، ومكافحة التمييز العمري في التوظيف، وجعل الشيخوخة فرصة اقتصادية، وخلق أنظمة تقاعد مستدامة.
كرامة الإنسان، إذاً، لا تتحقق إلا من خلال المشاركة الاقتصادية والاجتماعية المستمرة، في انسجام وتناغم بين القدرات والكفاءات وحاجيات ومتطلبات الفرد والجماعة. هذه هي السياسة التي تنتجها الدول المتقدمة، كما هو الحال في أوروبا، حيث يتم العمل بعدة إجراءات، من قبيل: عقد عمل خاص بالمسنين، تقديم قروض بنكية ميسرة ومبسطة إداريًا، تسهيل الولوج إلى التعليم والتكوين في كل مستوياته، تشجيع ودعم مالي للراغبين في العمل وإحداث مقاولات، وغيرها من الإجراءات المتنوعة في تجارب أخرى، التي تتطلب أدوات معالجة متقدمة، وتجارب لا ينكر فيها أحد حق المسن في العمل أو الدراسة أو التعلم، أي في حياة على قدم المساواة مع كل مكونات المجتمع من كل الفئات العمرية.